من يُراهن على نُبل النوايا في السياسة الدولية، فهو واهم، وهو كمن يُلقي بنفسه في البحر ظنًا منه أن الأمواج سترأف به.
السياسة، وخاصةً في العلاقات الدولية، لا تعرف العواطف، بل تحكمها المصالح البحتة، وقد تُغلّف أحيانًا بشعارات إنسانية أو أخلاقية أو دينية أو ايديولوجية، لكنها في جوهرها لا تتجاوز حدود المنفعة الذاتية والمصلحة للدولة الفاعلة.
من يعتقد أن دولة ما تدعم شعبًا أو تنظيمًا أو قضيةً، لأنها فقط عادلة أو مظلومة فقط، فهو واهم، الدعم لا يُمنح لوجه الله تعالى، بل يُستثمر لتحقيق أهداف تكتيكية أو استراتيجية تخدم مصالح الدولة المانحة، وما إن يتحقّق الهدف أو تتغير المصلحة، يُسحب الدعم دون سابق إنذار.
الولايات المتحدة مثلاً، تمنح مليارات الدولارات سنويًا كمساعدات لعديد من الدول، لكنها مساعدات مشروطة ومُوجّهة بعناية، الدعم المقدّم لـ"إسرائيل" ليس حبًا في الشعب الإسرائيلي، بل لأنه يُمثّل ركيزة أمنية واستراتيجية تضمن النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، وحتى حين قدّمت واشنطن دعمها لما يُعرف بـ"المجاهدين" في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، كان ذلك في سياق صراعها مع الاتحاد السوفيتي، لا دفاعًا عن حرية الأفغان، وما إن انتهت المعركة، حتى تُركت البلاد للفوضى، ثم عادت القوات الأميركية بعد2001 بدافع "مكافحة الإرهاب"، لتنهي وجودها عام 2021 أيضًا بشكل يُجسّد تمامًا منطق المصالح لا الالتزامات الأخلاقية.
الأمر ذاته ينطبق على إيران، التي كثيرًا ما تُروّج لدعمها لحركات "المقاومة" في المنطقة، لكن هذا الدعم ليس نابعًا من حبٍ لهذه الحركات، ولا إيمانًا مطلقًا بأهدافها، بل لأنه يصب في خدمة مشروعها الإقليمي ويُوفّر لها أوراق ضغط في صراعها مع خصومها، فالدعم الإيراني لحزب الله في لبنان، أو لبعض الفصائل في العراق وسوريا وغزة، هو في النهاية جزء من معركة النفوذ الإقليمي، ومحاولة لبناء محاور تدين لها بالولاء السياسي والعقائدي، لا مجرد مواقف مبدئية.
حتى المساعدات الاقتصادية والإنمائية، التي تبدو في ظاهرها بريئة من فبل بعض الدول المانحة، تُستخدم هي الأخرى كأدوات للهيمنة، مثلاً دول كبرى تمنح القروض للدول النامية مقابل امتيازات استراتيجية أو ولاءات سياسية، وما إن تتعثر هذه الدول في السداد، تُفرض عليها سياسات تقشفية تُفقدها قرارها السيادي.
ما يُنتج عن هذه السياسات هو تآكل ثقة الشعوب بالدعم الخارجي، وانكشاف زيف الادعاءات الإنسانية وغيرها، وبوضوح أن "الإنسانية" في هذا المجال ليست سوى أداة ناعمة لتكريس وخدمة المصالح. وهنا دائمًا الشعوب تدفع الثمن في كل مرة، عندما تُعوّل على الخارج بدلاً من أن تعول على بناء القدرات الذاتية لها، والدول الصغيرة وبعض الجماعات والحركات، تتحول إلى أوراق في لعبة الأمم، تتحكم بها الأجندات، وتُستعمل عند الحاجة وتُركن حين تنتفي الحاجة.
في العلاقات الدولية، لا تُوجد "جمعيات خيرية"، بل توجد توازنات قوى، وصفقات، ومصالح، وعلى من يظنّ أن الدول تمنح بلا مقابل، عليه أن يُراجع دروس التاريخ والسياسة معًا.
الذئب لا يتحول إلى حمل، والضعيف لا يُحترم إلا إذا امتلك أسباب القوة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها