انتهى تقسيم العالم بين يمين ويسار بمعناه التقليدي، أي بين قوى سياسية اشتراكية وشيوعية ماركسية، وبين قوى رأسمالية على مختلف أطيافها، التقسيم الذي يسود ويتعزز في الدول الديمقراطية، هو بين الليبراليين وبين من هم يمينيون محافظون متعصبون دينيًا وقوميًا، وأحيانًا فاشيون. وإذا أمعنا النظر فإن هذا التقسيم قد أصبح عابرًا للقارات بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي في كل دولة، فعلى سبيل المثال فإن دكتاتوريات العالم الثالث، وأنظمته المحافظة هي في معظمها أقرب أو متحالفة مع اليمين المحافظ، والمتشدد في الدول الديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وأستراليا وكندا، وغيرها من الدول التي تتم فيها عملية تداول السلطة بشكل ديمقراطي منتظم.
وقد تكون الفكرة مفهومة أكثر، إذا عدنا للتاريخ ولاحظنا أن توصيف القوى بين يمين ويسار يعود لأيام الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، وهي الثورة التي وضعت حدًا للحكم المطلق، واستبدلته بالعقد الاجتماعي، مع هذا التطور الجذري الكبير كان مصطلح اليمين واليسار يطلق حسب طريقة الجلوس في المؤسسة التشريعية، وكان أنصار الجمهورية العلمانيون الثوريون يجلسون في يسار القاعة، والمحافظون الارستقراطيون داعمو الملكية، والمتدينون يجلسون على اليمين. إلا أن هذا المصطلح تبدل معناه مع ظهور الاشتراكيين والشيوعيين الماركسيين، فأصبح هؤلاء يطلق عليهم اليسار، ومجمل القوى الرأسمالية كانت تعتبر يمينا بما فيها من محافظين وليبراليين. ومع تطور الفرز أصبح الليبراليون أقساما, منهم الليبرالية الأكثر تحررًا، التي تؤمن بالتعددية وحرية الرأي والتعبير, في أكثر تجلياتها وضوحًا علمانيون حداثويون يؤمنون بالعقل والعالم وهناك الليبرالية المحافظة التقليدية وهي اليمين التقليدي في الدول الديمقراطية.
في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي، أصبح اليساريون الاشتراكيون وبقايا الشيوعيين والليبراليين الأكثر تحررا يصنفون كونهم يسارًا والقوى المحافظة واليمين المتطرف المتشدد هم اليمين. بمعنى أنه لكل معسكر تصنيفاته الداخلية الخاصة به مع إمكانية التنقل والتحالف بين المعسكرات وهم ما يطلق عليهم الوسط، وهذا الأخير قد يشمل قوى من يمين اليسار وقوى من يسار اليمين واليمين التقليدي المحافظ ولكن المتطرفين الراديكاليين ليسوا من طرفي الخارطة السياسية.
التصنيف الذي يعزز من وجوده اليوم، على أرضية أن الجميع يتنافسون في الوعاء الرأسمالي، هو بين من هم ليبراليون علمانيون يؤمنون بحرية الرأي والاختيار والتعددية الفكرية والاعتراف بالآخر، وهم تيار عريض موجود منهم في كافة الدول وعلى امتداد العالم، وبين قوى اليمين المحافظ والمتشدد قوميًا ودينيًا. وفي هذا التصنيف لا يعني أن كل شيوعي هو ليبرالي إذا ما تحالف مع الدكتاتوريات وما تمثله من قوى قومية ودينية متشددة، كما أن الليبرالية الاقتصادية، التي لا تؤمن بالعدالة الاجتماعية لا تصنف على أنها جزء من القوى الليبرالية فكريًا وسياسيًا.
ولتقريب الفكرة، للقارئ الفلسطيني والعربي، فعلى سبيل المثال تحالف اليمين واليمين الإسرائيلي الذي يمثله نتنياهو والصهيونية الدينية هم أقرب حلفاء للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية وللتيار الترامبي المتشدد فيه، تحديدًا، وهم أقرب لليمين المتطرف في أوروبا الذي يطرح شعار أن أصل القارة الأوروبية يهودي مسيحي، بمعنى لا مكان للمسلمين وغيرهم من الأعراق فيها. وهنا يبرز كذب هذا الادعاء، لأن أوروبا هي من اضطهد اليهود، وبالتحديد هؤلاء القوميين المتطرفين والفاشيين من اليمين الأوروبي.
الأنظمة الدكتاتورية في العالم، بغض النظر عن الجغرافيا، والأنظمة المحافظة هي حليف تلقاني لليمين المحافظ والمتشدد في الدول الديمقراطية، وهنا يظهر ترامب حليف يمين حزب المحافظين البريطاني، على سبيل المثال، وهو أقرب إلى برلسكوني واليمين المتطرف الإيطالي والفرنسي، وهو لا يكترث لحقوق الإنسان وحرية الرأي ولا يرى أن هناك مشكلة في أن يتحاف مع أي دكتاتور في العالم، إذا كان في ذلك مصلحة له. بعكس الحزب الديمقراطي، وخاصة الجناح اليساري والأكثر ليبرالية فيه، فإنه حليف طبيعي للقوى التي تشبهه من اليسار والوسط في العالم.
في فرنسا على المثال يقف اليسار الجديد ضد سياسة ماكرون الاقتصادية ويحاربها لكنه يقبل به سياسيًا وفكريًا لأن اليمين القومي المتطرف النقيض له، واليسار الفرنسي هو ائتلاف واسع ومن ضمنه الليبرايون الأكثر انفتاحًا، الذين ينظرون للمتطرفين القوميين خطرًا على الديمقراطية من أساسه. ومع تقدم اليمين المتطرف والفاشي في أوروبا والولايات المتحدة، فإننا قد نكون في مرحلة نشهد فيها انهيار الليبرالية الغربية، وفي مثل هذا الحالة سنكون أمام عالم أقل احترامًا للتعددية وحرية الرأي والتعبير، عالم لا يكترث لمنظومة القانون الدولي وما طورته الحضارة الإنسانية من نظام يقدم الإنسان على المصالح الضيقة، عالم يحترم العقل الفردي وقدرته على الإبداع.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها