نعتقد أن صورة علم فلسطين المحلق في سماء القدس الشرقية تحت قبة سماء باب العمود بواسطة طائرة مسيرة شخصية (غير عسكرية طبعًا) ستبقى الصورة رقم واحد رغم الحشد الإعلامي الهائل لمسيرة علم منظومة الاحتلال والاستيطان والفصل العنصري (إسرائيل) فمعاني الصورة ودلالاتها أعظم من قدرة الغزاة على استيعابها، أو التفكير بإمكانية تجسيدها، فرؤوس المنظومة السياسيون والعسكريون الذين ظهروا بالأمس على حقيقتهم في أبشع صور البشرية الهمجية المشبعة بالعدائية والكراهية على خلفية عنصرية خالصة لم يضعوا في سجل تقديراتهم ولا حساباتهم المفرطة في التفوق والغطرسة قدرة الفلسطيني الوطني على الإبداع، الذي فاجأهم بعلم فلسطين، علم الحقيقة التاريخية والطبيعية يحلق في القدس، خارقًا بذلك قدرات أركانهم الاستخباراتية والعسكرية والأمنية التي لم تستطع تغييب علم فلسطين عن الحضور على أرض عاصمتها، رغم فيضان آلاف النسخ من علم الاحتلال ومنظومة الفصل العنصري، المحمية مع حامليها بأكثر من عشرة آلاف جندي من جيش الاحتلال وقواته انتشروا في دائرة صغيرة (القدس الشرقية والبلدة القديمة، فيما كانت كل قوات منظومة الاحتلال البرية والجوية والبحرية في حالة استنفار من الدرجة القصوى وكأن حربا واقعة حتمًا ينتظرون ساعة الصفر لإطلاقها)!.
المشهد الذي رأيناه أمس الأول في القدس مؤلم جداً، لكن الآلام لدى النبلاء في إيمانهم بالفكرة هي الرحم الطبيعي للأفكار والرؤى الخلاقة، فكيف إذا كان النبل مقرونًا بالوطنية؟! ومن هنا يمكننا البدء بالقول "رب ضارة نافعة".
علم المحتلين ضرر وباطل وشر مطلق، لكن حامليه بعدوانهم على تاريخنا وقدسنا ومقدساتنا قد منحوا علم فلسطين رمز الانتماء والوفاء للوطن التفوق والارتقاء على الرايات الحزبية التي انكفأت اختفت تماما، وتحديدا التي كان يرفعها (أتباع مستخدمي الدين وأولادهم) خدمة لأغراض سياسية، ونعتقد ان مسيرة (رمز الباطل) ستساهم أكثر في تنمية الوعي الفردي والجمعي لدى الجماهير الفلسطينية بمعنى العلم الرباعي الألوان وبمكانته باعتباره الرمز الوطني الأعلى في المقاومة الشعبية السلمية، فرؤوس منظومة الاحتلال يدركون جيدًا أن علم فلسطين المرفوع على أي مكان على ارض فلسطين التاريخية والطبيعية نقيض لواقعهم الناشئ بقوة الاحتلال وإرهاب الدولة المنظم، والدعم الاستعماري اللامحدود من دول استعمارية أنشأتهم ومعنية باستمرار خدماتهم كوكلاء، وأن علم فلسطين نقيض ادعاءاتهم بالسيادة على القدس الشرقية خصوصًا، وفلسطين عمومًا من الجليل حتى النقب، ومن أريحا حتى شواطئ يافا.
اجتاح المستوطنون القدس الشرقية والحرم القدسي، ودخلوه بحماية جيش الاحتلال، ورفعوا علمهم وأدوا طقوسا تلمودية، ثم تجمعوا عند باب العمود وساروا في ازقة القدس العتيقة وهذا كله ضارة لكنها جالبة للمنفعة، فرؤوسهم الحمقاء مثل نفتالي بينيت وايتمار بنجفير وبنيامين نتنياهو غفلوا عن مسألة في غاية الأهمية، وهي أنهم بهذا الحشد من المستوطنين – معظمهم مسلحون بشكل ظاهر وأكثرهم كانت اسلحتهم مخفية– والزج بفرق عسكرية مدججة بأسلحة عسكرية وكأنهم في ميادين حرب، يكذبون ما تروجه ألسنتهم عن فرض السيادة على القدس، ويكشفون عن فشل مشروعهم الصهيوني وأهدافه الحقيقية تجريد الشعب الفلسطيني من هويته الوطنية، أو اخضاعه رغم 74 سنة على إعلان انشاء كيان اسرائيل و55 سنة على احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة، فمناسبات شبيهة في أي دولة تتمتع بسيادة حقيقية على عاصمتها لا يحتاج الأمر لأكثر من شرطة (غير مسلحة) أو غير ظاهر سلاحها الفردي على الأقل لتنظيم مسارها وضبطها وحمايتها كما هو السائد في دول ديمقراطية، أما رؤوس المنظومة السياسيون فقد قدموا للعالم وبأيديهم إثباتا دامغا على صحة وصواب روايتنا الفلسطينية السياسية والثقافية على حد سواء، المؤيدة بقرارات الشرعية الدولية بأن القدس أرض عاصمة فلسطين المحتلة، وأن اسرائيل القوة القائمة بالاحتلال.
أداء دواعش إسرائيل الطقوس التلمودية الاستفزازية ورفع راية الباطل داخل الحرم القدسي ضارة تهدد مستقبل مقدسات الشعب الفلسطيني، واقل تقدير تثبيت التقسيم الزماني والمكاني للحرم القدسي والمسجد الأقصى، لكنها جالبة للمنافع أيضًا، فصور الدواعش المستوطنين قد تكون سببًا في جلاء ونقاء الرؤية لدى المضللين من شعبنا، رؤية تكشف لهم الوجه الحقيقي لمستخدمي الدين عندنا في فلسطين على رأسهم الاخوان المسلمين بكل فروعهم ومسمياتهم، وتسقط أقنعة أحزاب وجماعات عربية وأخرى أجنبية وتكشف هشاشة شعارات ومواقف كلامية لا أكثر تصدرها زعامات دول وقوى اقليمية حول القدس ومقدساتها، صورة كافية لإقناع الفلسطيني أن منظومة الاحتلال معنية فعلا بالقضاء على روح وثقافة وهويته الوطنية، أما مستخدمو القدس والمقدسات في حروبهم الرغبوية الشخصية والسلطوية عندنا وفي بلاد قريبة وبعيدة على حد سواء فلا تحسب لهم حسابًا، لذلك نرى دواعش اسرائيل معنيين بإشعال حرب دينية لقناعتهم أنها أسهل عليهم بكثير من الحرب على الوطنية الفلسطينية التي لم تسفر حتى الساعة على تثبيت وجودهم رغم مرور 125 سنة على مؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897 واعتمادهم غزو فلسطين لتفريغ مواطنيها منها، وتكريس دعايتهم الباطلة بأنها "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".. فالقدس هي روح الشعب الفلسطيني، وما على (دواعش إسرائيل) الذين يظنون بالسيطرة والسيادة النهائية عليها إلا انتزاع روح آخر فلسطيني من على وجه ارض فلسطين أو في اي مكان في الدنيا، فالقدس والعلم رمزان أبديان لوجودنا الطبيعي، وقد باحت الصور بهذه الحقيقة، فقد بقيت القدس ومقدساتها وأهلها وشعبها الفلسطيني وستبقى نافعة لمن اراد لها السلام، أما المستوطنون فقد لملموا ضررهم وشرهم وغادروها كعادة الغزاة دائمًا.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها