عندما تتحدث إسرائيل عن تصعيد فلسطيني محتمل، ومن ثم تصول وتجول في الإقليم والعالم طلباً للهدوء، فما من شك أنها تحضر لعدوان كبير على الشعب الفلسطيني. فلو كانت إسرائيل بالفعل معنية بالهدوء لقامت بضبط المستوطنين ووقف استفزازاتهم واعتداءاتهم على المواطنين الفلسطينيين، ولكانت منعت اقتحام المتطرفين الفاشيين للمسجد الأقصى، خاصة في شهر رمضان المبارك.
للشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة تجربة طويلة مع مثل هذه الألاعيب الإسرائيلية، فبعد فشل قمة كامب ديفيد عام 2000، ورفض القيادة الفلسطينية في حينه تقديم تنازلات، بدأت تتحدث إسرائيل عن احتمالات التصعيد، وفي ظل هذا الحديث سمحت لشارون بزيارة باحات الأقصى فانفجرت الانتفاضة الثانية. وخلال ذلك دفعت اسرائيل أحداث الانتفاضة إلى أن وصلت إلى عملية "السور الواقي"، وهي بمثابة حرب وحشية شاملة شنها شارون وأعاد من خلالها احتلال الضفة الغربية، بهدف تدمير السلطة الوطنية الفلسطينية، والتي انتهت باغتيال القائد التاريخي للشعب الفلسطيني ياسر عرفات.
إن من مصلحة إسرائيل، التي أصبحت في نظر العالم، كدولة فصل عنصري، وتطهير عرقي، أن تعيد إنتاج فكرة الفلسطيني "الإرهابي" الذي يستهدف المدنيين، فهي تروج إنها تريد التهدئة، لكنها ترسل قطعان المستوطنين في الريف الفلسطيني وفي الأقصى بهدف استفزاز الفلسطينيين ودفعهم للتصعيد، والقيام بردات فعل غير مسيطر عليها تأخذ منها "مبرراً" لشن عدوان واسع على الشعب الفلسطيني.
إسرائيل، ليست دولة فصل عنصري وحسب، بل انها دولة بات يضيق فيها هامش الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، داخل المجتمع اليهودي ذاته، عبر التضييق على منظمات حقوق الإنسان وحركات السلام الاسرائيلية، التي تفضح ممارسات جيش الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة والقدس الشرقية. وفي كتابها الذي صدر مؤخرًا، كشفت المديرة العامة السابقة لمنظمة "فلنكسر الصمت" يولي نوفيك، عن تآكل الديمقراطية، حيث بات وصف المعارضين أعضاء منظمات حقوق الإنسان بـ "الخونة".
وبعد حادثي بئر السبع والخضيرة، وقام بهما فلسطينيان من الداخل، بدأنا نسمع في إسرائيل أصواتاً تطالب بإغلاق المدن والبلدات والقرى العربية بالحواجز العسكرية وتحويلها إلى معازل عنصرية. وكانت هناك أصوات أكثر تطرفاً تدعو إلى ترحيل الفلسطينيين "ترانسفير"، بصفتهم "طابورًا خامسًا" و"أعداء من الداخل".
على امتداد عقود الصراع، كانت إسرائيل تنظر للأحداث بعين واحدة، العين الصهيونية، والتي ترى الفلسطينيين المذنبين، وترى أن ما تقوم به إسرائيل ردات فعل، ويتناسون أنهم هم من جاء إلى فلسطين بمشروعهم الاستعماري العنصري. ومن جهة أخرى، فإن إسرائيل، التي تشعر أنها مرتاحة مع اتفاقيات التطبيع، تريد أن تستفرد بالشعب الفلسطيني وتقوم بفرض واقع جديد يخلط كل الأوراق.
الشعب الفلسطيني ليس له مصلحة في التصعيد، في ظل ظروف ينشغل فيها العالم بالأزمة الاوكرانية، وواقع عربي فيه دول تفككت وأخرى طبعت. ثم ان الشعب الفلسطيني اختار المقاومة الشعبية كوسيلة مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، وإنه قد يكون بحاجة إلى تزيد هذا النمط من المقاومة ووضعه ضمن ديناميكية متواصلة، وبطريقة مكلفة للاحتلال وأقل كلفة على الشعب الفلسطيني.
علينا أن نكون حذرين بحيث لا نعود إلى مربع الفلتان الأمني والفوضى، لأن المستفيد الوحيد من مثل هكذا حالة إسرائيل، وأطراف إقليمية لا هم لهم سوى المتاجرة بالدم الفلسطيني، واستخدام القضية الفلسطينية ورقة في خدمة مصالحها وليس المصلحة الفلسطينية. مقاومة الاحتلال والمشروع الصهيوني هو ركن أساسي في حياة الشعب الفلسطيني، فالصمود على الأرض، مع انعاش الاقتصاد الوطني، وتوفير تعليم جيد وقطاع صحي جيد هو جزء مهم من النضال الفلسطيني، إلى جانب المقاومة الشعبية في مواجهة الاحتلال والمستوطنات والمستوطنين ولكن ليس الفوضى والفلتان.
قرأت تصريحات للقائد الفلسطيني الفذ، رئيس القائمة العربية المشتركة، أيمن عودة التي طالب فيها الفصائل الفلسطينية بأن تكون حذرة وهي تطلق بياناتها حول ما جرى في بئر السبع والخضيرة، وقال إن جماهير الشعب الفلسطيني داخل الخط الأخضر يخوضون نضالاً مثابرًا من أجل تحقيق المساواة. وتاريخيًا اضرت المزايدات الفارغة بالقضية الفلسطينية، وأضرت بالشعب الفلسطيني، وقدمت خدمة للعدو الاسرائيلي.
لعل ما نحتاج إليه برنامج نضالي مشترك متفق عليه، وأن نخرج من دائرة ردات الفعل، برنامج يوازن بين استمرار الحياة اليومية للمواطن وفي نفس الوقت تكون المقاومة الشعبية فعلًا يوميًا متواصلاً ومؤثراً ضد الاحتلال الإسرائيلي.
*المصدر: الحياة الجديدة*
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها