مناظر الأطفال والنساء والشيوخ والرجال الأوكرانيين الهاربين من الحرب والموت إلى الدول المجاورة تدمي العيون والقلوب فهؤلاء الناس يدفعون فاتورة الحرب أملاكًا وغربة ومعاناة وذلاً وجوعًا ومرضًا وبردًا وضياعًا. لا أحد يعرف وجع اللجوء إلا الذي اكتوى به. ونحن أبناء الشعب العربي الفلسطيني الذين عشنا التجربة المرة حينما لجأنا إلى لبنان وسوريا والأردن والعراق ومصر، تاركين مرغمين مدننا وقرانا وبيوتنا، عانينا من الجوع والعطش والحر والقر والذل والمهانة ولم ير العالم مناظرنا على شاشات التلفاز، ولم تتجند دولة عظمى للدفاع عنا والتخفيف من معاناتنا، ولم تفرض دولة من الدول الغنية مقاطعة ما على مسبب أو مسببي نكبتنا بل دعمت الدول الكبرى والغنية دولة إسرائيل اقتصاديًا في بنائها كما دعمتها سياسيا في تجاهلها وتنكرها لشعبنا المنكوب. كنا أيتامًا على موائد اللئام الذين اجتهدوا كي يحولونا إلى شعب جائع يفكر بمعدته فقط وبرغيف الخبز والجبنة الصفراء لا غير.
لم تشعر بمعاناتنا الدول التي تدعي أنها ديموقراطية وتحرص على كرامة الإنسان وحريته، وتغاضت الدول الأوروبية عما جرى لنا، وتصاممت وتعامت الولايات المتحدة عن وجعنا فنحن سمر البشرة ونلفظ الشهادتين صباح مساء، وهذان الأمران خطران على الإنسان ذي العينين الزرقاوين.
ما يحدث اليوم للشعب الأوكراني يذكرني بمسيرة اللجوء والعذاب والشقاء التي مشيتها على الشوك والحجارة مع أهلي وأبناء شعبي في الطرق الجبلية من قريتي إلى الجنوب اللبناني وحينما وقفت خائفًا باكيًا على صخرة الجليل الأعلى حيث الوادي العميق بجواري وقوافل اللاجئين تمر أمامي وعيناي تبحثان عن والدي ولا أحد يسأل عني.
شاهدت في هذه الأيام هذه الصورة المأساة في عيون أطفال أوكرانيا وفي عيون النساء كما سمعت نشيج الشيوخ الذين يمشون على ثلاث.
يا شعب أوكرانيا مأساتك استمرار لمأساتي ووجعك من وجعي.
حكام القارة العجوز وأصحاب مصانع الأسلحة وتجارها وسادة البورصة يميزون بين دم ودم ويفرقون بين لون وبين لون ويعبدون إلها ويتنكرون له عندما يتغير اسمه ولغة أتباعه وأما أنا وأبناء شعبي فعلى الرغم مما جرى لنا ويجري لنا نبقى إنسانيين نتعاطف مع الجياع والمشردين واللاجئين والذين ينشدون الأمن والحرية مهما كانت لغتهم ومهما كان لون بشرتهم ومهما كانت التميمة على عنق الواحد منهم.
يا شعب أوكرانيا أعداؤك هم أعداء شعبي، ومصاصو دمك هم مصاصو دم أبناء شعبي.
أعرفهم هؤلاء القتلة المجرمين أصحاب شركات النفط والغاز وأصحاب المطاحن التي تطحن القمح واللحم البشري، أصحاب مصانع الأسلحة وأصحاب الأسهم الكبيرة في البورصات، أصحاب الأحلاف العسكرية وأيتام هتلر وموسليني وتشرتشل وروزفلت وستالين.
مناظر الأطفال والنساء والشيوخ الفارين من الموت والباحثين عن الأمن تسرق النوم من عيني وتحملني إلى ثلاثة وسبعين عامًا خلون، إلى أيام البؤس والضياع، إلى قوافل اللاجئين من يافا واللد والرملة وحيفا وعكا وصفد وطبريا وبيسان.
أعرف من يتوجع لأطفال أوكرانيا، وأعرف من يكذب وينافق ويتاجر بأوجاعهم وبدمهم وبقبورهم.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها