رامي سمارة

كان آخر طلب له منها أن تمد يدها له ليقبلها، وكان آخر طلب لها منه أن يتوقف عن إحراجها.

كان ذلك في أحد شوارع بلدة أبو ديس شرق القدس، قبل 10 دقائق من اندلاع مواجهات أصيب خلالها برصاص الاحتلال.

"كنا نتمشى سوية في الشارع، وطلب أن يقبل يدي، رفضت ذلك درءا للإحراج، فقال: إن لم ترفعي يدك لأقبلها سأهبط على قدمك لأقبلها".

استحلفته أن يكف عن إحراجها ووضعها في موقف حرج، فرد عليها و"الله يما بحطك على راسي مش بس ببوس إيدك في الشارع".

على كرسي معدني، جلست سميرة الصياد محاطة بنسوة البلدة، تتحدث عن مناقب رابع أبنائها الذي كان جثمانه يوارى الثرى، على بعد عشرات الأمتار في مقبرة البلدة.

تترضى عليه حيناً، وتطلب له الرحمة والقبول حينا آخر، وتحمد الله على ما وهب وعلى ما أخذ، تصمت قليلاً، وتسأل مستنكرة: "أحكيلك عن يامن؟". هو أحن بني آدم في الدنيا، وأحن شخص يمكن أن تقابله في حياتك.

وتذكر أنه أيدها قبل 3 أيام من إصابته، بقرار إطلاق سراح عصفور تحتفظ به العائلة في قفص داخل المنزل، وشجعها على ذلك بقوله: "تخيلي أنني عصفور، فهل ستقبلين ببقائي داخل قفص؟ أنا أحب أن أطير في السماء.

وعادت تتساءل، ماذا يمكن أن أقول عن يامن؟ كان يحب أن يساعدنا في أي شيء، ويود بأن لا يبقينا بحاجة لأي شيء.

وتساءلت مرة أخيرة، ماذا يمكن أن أقول عن يامن؛ قبل أن تجهش في البكاء بحديثها عن الحصالة التي اكتشفت أنه كان يخبئها ليشتري لها هدية في عيد الأم.

هي الآن لا تنتظر منه هدية، ليس لأنه الاحتلال لم يمهله أسبوعين آخرين ليقدمها لها، بل لأنه رحل شهيداً، فتلك بالنسبة لها أكبر هدية يمكن أن تحصل عليها أي أم في العالم.

لا تجد سميرة أي مبرر لاستهداف صغيرها بالرصاص الحي، خلال مواجهات اندلعت في أبو ديس مساء يوم الأحد الماضي، وتتهم جيش الاحتلال الإسرائيلي بأنهم قتلوا طفلاً في الخامسة عشرة من العمر بدم بارد.

في الجوار، وعلى مركبة نقل تحمل سماعات ضخمة، كانت تملأ المكان منذ دقائق بعبارات النعي وشعارات شد الأزر والتضامن، وقف نافذ جفال يرحب بمن حضر لحفل زفاف ابنه يامن.

"أهلا وسهلا بمن حضر وأهلاً وسهلاً بمن أتى من كل بقاع الضفة، وأهلا وسهلاً بكل من شارك في هذا العرس الكبير" قال شاكراً آلاف الحضور.

لأول مرة، سيتمكن جفال من أن يرفع عينيه في عيون ذوي الشهداء، فقد حصل على وسام يمكنه من ذلك.

"اليوم أصبح بإمكاني أن أضع عيني بأعين أهالي الشهداء. كنت اسمع عنهم وأتضامن معهم وأترحم على من فقدوا، ولكن تبين لي أن ذوي الشهيد يحصلون على وسام يجعلهم أناسا غير اعتياديين، ومرد ذلك أن للشهداء كرامة لا يطولها أيا كان".

يشارك نافذ زوجته سميرة في الإيمان بأن صغيرهما يامن وقع ضحية لجريمة اغتيال بدم بارد من قبل قناص، إذ لم يكن هناك ما يستدعي اغتياله.

ويقول: "هذا نهج المحتل الغاصب القائم على قتل واغتيال كل ما هو فلسطيني، احتلال لا يفرق بين طفل وامرأة ورجل، وينظر كل فلسطيني على أنه هدف مستباح، ويامن أحد أبناء الشعب الفلسطيني".

لا يتمكن جفال من إغفال وجع الفقد، ولكنه يؤمن أن الابن لا يقل عن الوطن في القيمة والأهمية، فـ"يامن شهيد ضحى لأجل قضية عادلة كما من سبقوه، وكما سيضحي من سيلحقون به ما دام هناك احتلال. وحتمية النصر قادمة إن لم يكن في عهد يامن ولا في عهد ذويه".