معركة القدس مفتوحة ومستمرة إلى حين إنجاز التحرير وكنس الاحتلال. إنها جزء من حرب مستمرة وطويلة يخوضها كل أبناء الشعب الفلسطيني. إنها حرب تحرير شعبية طويلة الأمد. سلاح الشعب فيها متنوع. قلت مرة في إحدى مقالاتي إننا شعب مقاوم، تبدأ المقاومة لدينا برفع الحاجب احتجاجًا لتصل إلى التضحية بالنفس. واجه شعبنا على مدار عقود سياسة البطش والتنكيل والقتل والتهجير والاعتقال. جرّب الاحتلال كل أساليب المستعمرين لإخضاعنا. لم يبق لديه جديد يستخدمه. أفلس، وأبدعنا في أساليب مقاومتنا، وفي كل يوم لدينا جديد.

أتحدث اليوم عن معركة القدس الحالية وعن من يقودها. كل الفلسطينيين الذين هبّوا للدفاع عنها مقاتلون بشجاعة فائقة، يقاومون بما لديهم من وسائل بسيطة مستوطنين وجنودًا مدججين بالسلاح وأدوات قمع، تحت شعار باقون هنا لن نغادر بيوتنا. لن تتكرر مأساة 1948. لو كان لدينا مثلهم في ذلك العام، لما سقطت القدس الغربية ولا مدننا وقرانا.

لمع في هذه المعركة قادة يفوقون في شجاعتهم وقدرتهم جنرالات برتب وأصوات عالية مجلجلة. سأتحدث كنموذج عن "الجنرال" نبيل الكرد. يجلس بهدوء على كرسيه أمام منزله المهدد بالاستيلاء عليه، يشرب قهوته، وكأنه يدير ساحة المعركة بجمل بسيطة، هي بمثابة قذائف في صدر العدو. هذا الرجل الصلب في العقد الثامن من عمره، والذي سرق المحتلون بيته في حيفا ووجد نفسه لاجئًا في حي الشيخ جراح، قرر أن يقود معركة الصمود. وقالها بصوت هادئ هنا باقون. نحن كشجر زيتون فلسطين وحجارة القدس. لن يفلح المحتلون في اقتلاعنا ولا هدم حجارتنا.

يلتقط ابنه وابنته توجيهاته ويتحملون معه عبء القيادة. تمامًا كما يحدث في كل أرجاء فلسطين حين يتبع الأبناء خطى الآباء في التحمل. منى ومحمد يواجهان المستوطنين ويبدعان في الشرح والحديث وبث روح الشجاعة بين المساندين الذين يتدفقون لحماية حي الشيخ جراح، ويثيران اعجاب المتضامنين، يعتقل جيش الاحتلال منى فتغادر بيتها موجهة حديثها لوالدها وعائلتها لا تقلقوا وكأنها ذاهبة في نزهة، ويسلم محمد نفسه للمحتلين الذين تركوا له مذكرة استدعاء. يواظب "الجنرال" نبيل الكرد على الجلوس أمام منزله، على كرسي القيادة، ويقول منى ومحمد في قبضة المحتل، يخوضان معركة التحدي. يستجيب جنود المعركة، فتشتعل المواجهات، ويرضخ المحتلون فيطلقون سراحهما ليعودا بشموخ إلى ساحة المعركة. بوعيٍ قالت منى: "قضية الشيخ جراح قضية كل الفلسطينيين والعرب عامة. اليوم الشيخ جراح يواجه التهجير، غدا سيكون التهجير في حي آخر، والمؤازرة هي للقدس عامة لا تقتصر علينا".

مثل ما يحدث في حي الشيخ جراح، يحدث في حي "باطن الهوى"، أحد أحياء سلوان، وأحياء أخرى. يقود المواجهة فيها مواطنون شكلوا لجانًا ودعوا للاعتصام أمام المحكمة التي كانت ستصدر قرارًا بتسليم بيوت في الحي للمستوطنين، فاضطر المحتلون للتراجع بإعلان التأجيل. كل من دعا للاعتصام وشارك فيه قادة حقيقيون.

"جنرالات القدس" قادوا المعركة في باب العمود وباحات المسجد الأقصى، أسماء كثيرة برزت، واندفع المواطنون من كل ارجاء فلسطين تلبية لدعواتهم لإفشال خطط المستعمر المحتل. نجحوا حتى الآن لكن إصرار الصهاينة على تهويد القدس مستمر.

ولا بد من التنويه إلى "جنرالات الإعلام والصحافة"، فقد تعرضت طواقمهم للاعتداء بالضرب والاعتقال وتكسير أدواتهم وعدساتهم، وعلى رأسهم طاقم تلفزيون فلسطين والصحفيتان جيفارا البديري ونجوان سمري وآخرون، وكانت كرستين ريناوي الصحفية المقدسية مصدراً مهما للمعلومات، ومتابِعة لكل ما يجري، وطبعًا الكثير من جنرالات الإعلام، أحد أهم أسلحة المعركة.

طوبى لجنرالات القدس، وجنودهم، أي كل من يشارك في هذه المعركة، فعليهم تقع مسؤولية الاستمرار في إجبار العدو على تغيير خططه، بمساندة كل الشعب الفلسطيني في مساحة فلسطين بين النهر والبحر.