عرفنا شخصيات كثيرة تبوأت مواقع ومهام في رأس الهرم القيادي وما زالت، بعضهم ترك آثارًا ايجابية في ذاكرتنا وحتى أنه ساهم في صقل وعينا الوطني بفضل ميزات شخصيته التي ما كان أحد آخر يمتلك مثيلها، رغم وجود الجميع في إطار سياسي وتنظيمي، وبعضهم الآخر كان لسلبياته دور في احداث نقلة نوعية في رؤيتنا وتبصرنا للأمور، بعد أن ثبت لنا مع الأيام والتجربة حجم تناقضه، واستغلاله لثقتنا التي نوليها للمستوى القيادي وتحديدًا عندما يكون منتخبًا.

سنتحدث عن المثال الأول ونترك الآخر حتى تبقي سطورنا نقية وطاهرة بقدر محبتنا واحترامنا ووفائنا.

كان الطيب عبد الرحيم - رحمه الله – واحدًا من الشخصيات التي وجدت مقومات رجل الدولة مجسدة، حيث كانت تتجلى فكرة الثورة السياسية، والسياسة الواقعية بمنطق وأرقام ولغة عربية سليمة، كيف لا وقد ورث فن الخطاب من والده الشاعر عبد الرحيم محمود.

لقد لاحظت جهدًا بذله الطيب عبد الرحيم لتقديم رؤيته وأفكاره ومواقفه من قضايا الصراع في الميادين كافة، الوطنية الفلسطينية وتلك المتعلقة بقضايا الأمة العربية، فأبو العبد – رحمه الله - كان ثريًا بموسوعة سياسية وزاد عليها المعلومات الدقيقة التي حرص أن تكون بمتناول من كان يراهم يستحقون الاطلاع عليها، ويمتلكون قدرة تحليلها، والإبحار في حيثياتها للوصول إلى جزيرة الحقائق.

كان قلب الطيب عبد الرحيم غنيًا بالعقل وكان عقله غنيًا بالعاطفة، ولكن لم تكن ارتجالية ولا انفعالية، وإنما انسانية خالصة تتدفق تلقائيًا كماء عذب يشق صخر الجبل ليرتوي منه الهائمون المتروكون لمصائرهم، عن قصد أو كان قد تخلى عنهم ذوو قربى ومسؤولية.. فكان روحًا وجسدًا تشكلت من خليط منسجم رائع من سمات الفدائي المناضل، والإعلامي المؤثر بالكلمة الحرة المعبرة عن الثورة، والسياسي والدبلوماسي والقائد الحكيم، فالطيب الذي كان قد كان رئيسًا لاتحاد طلبة فلسطين في القاهرة بينما كان الثانية والعشرين من عمره ومع حصوله على البكالوريوس في التجارة التحق بالأكاديمية العسكرية في نانجينغ في جمهورية الصين الشعبية ضمن أول دفعة لحركة فتح في العام 1966.

 سمعناه يقرأ البيانات والتعميمات في إذاعة صوت العاصفة صوت الثورة الفلسطينية في العام 1969، لكنا ما كنا نعرف نجوم إذاعة الثورة كما كنا نعرف المذيعين في الإذاعات العربية والعالمية، فالمهمة في إذاعة الثورة في تلك الفترة ما قلت ولا بمقدار شعرة عن مهمة الفدائي في القواعد، حيث كان الكل في أعلى درجات العطاء بلا حدود ولا مقابل.. أما السنوات الست التي أدار فيها أبو العبد صوت العاصفة وصوت فلسطين من العام 1959 وحتى العام 1975 فكانت كفيلة بصقل قدراته في التعبير الوجداني المؤثر على المتلقي، وتوظيفها لخدمة القضية الوطنية، فنجح في مهمة تمثيل منظمة التحرير في يوغسلافيا وبعد ذلك في المملكة الاردنية الهاشمية فأسس لعلاقات متينة بين فلسطين التي مثلها وبين هذه الدول كانت مفاتيح خير لكثير من الفلسطينيين الذين كانت تدخلاته تحل قضاياهم الانسانية، وأنا شاهد على استخدام علاقاته حتى وهو أمين عام الرئاسة الفلسطينية في تأمين لقاء أبناء شهيد في بلد عربي شقيق، فحقق أمنياتهم بلم شمل في زيارة دامت أيام.

كان الطيب عبد الرحيم مستمعًا جيدًا لكل من يتحدث اليه، يصغي وتكاد تشعر أنه يقرأ في محيا المتكلم بنفس لحظة استماعه باهتمام، فالشخص عند أبو العبد كبير بفكرته ومواقفه وآرائه القيمة.

لم تؤثر أعباء مهامه الكبرى على ابتسامته وعذوبة روحه، ولطفه، كان ودودًا، متواضعًا، لم تؤثر المهام الرسمية الكثير وآخرها حتى ارتقاء روحه أمينًا عامًا للرئاسة الفلسطينية وكذلك الأوسمة التي علقت رسميًا على صدره من اضعاف حضوره الإنساني الشخصي، فبقي الطيب طيبًا ورحيمًا، ووفيًا.

الأوسمة بالنسبة للمناضل في حركة التحرر الوطنية الفلسطينية تكريم للشعب وتضحياته، وهي كذلك للطيب عبد الرحيم الذي ما سمعناه يوما يتحدث عنها، فهذه رغم ما تعنيه اي شخص منا، إلا أنها بالنسبة للطيب كانت تعبيرا عن نجاح فلسطين في الوصول الى ضمائر وقلوب رؤساء وملوك كبار مؤثرون في هذا العالم، فقد وسمه الرئيس محمود عباس في العام 2007 بنجمه الشرف من الدرجة العليا ومنحه الملك الحسين بن طلال وسام الاستقلال من الدرجة الأولى أما يوغسلافيا الاتحادية الاشتراكية حينها وفقد منحه رئيسها وسام العلم اليوغسلافي مع الشرف.

وقلده الرئيس الصيني شي جين بينغ وسام جائزة المساهمات البارزة للصداقة الصينية العربية.

وقلده رئيس هيئة الرقابة والمحاسبة ورئيس الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية، وسام الشرف الروسي.

أما نحن وفي ذكرى السنة الأولى على ارتقاء روحه للسماوات العلى في الثامن عشر من شهر آذار، فلا نملك إلا وسام الوفاء نرفعه لروح الطيب عبد الرحيم.