انتهى الحوار الفلسطيني في القاهرة ببيان ختامي اعتبر ناجحًا وإنجازًا فلسطينيًا، وهذا صحيح وسنضيف عليه انتصارًا للشخصية الوطنية الفلسطينية التحررية التقدمية الفردية والجمعية إذا ابتدأ الموقعون على البيان برفع برنامج الانتماء الوطني إلى ذاكرة كل مواطن فلسطيني سواء كان عضوا في إطار تنظيمي أو نصيرًا، فمنهج الوطنية التحررية والديمقراطية الفلسطينية يجب أن يكون المادة  الرئيسة المحورية في عملية التثقيف، وجوهر الرسالة الإعلامية والحاضر الغائب في الخطابات الهادئة العقلانية المنبرية وليس الانفعالية العدمية النارية.

ستبقى كل الاتفاقيات بين المكونات السياسية في بلدنا حبرًا على ورق ما لم تصبح الوطنية الفلسطينية مرجعًا فكريًا لكل فصيل، وما لم يتم تذويب العلامات الفاصلة بين يمين ويسار ووطني وإسلامي، فنحن من حيث المبدأ كلنا وطنيون أما الاجتهادات النظرية وتعدد سبل ووسائل وأدوات بناء المجتمع، فإن التنوع في هذه الحالة هو الغنى المطلوب لتعزيز قوة ومتانة النظام السياسي، ما يكفي لتعطيل الألغام المزروعة أسفل بناء الوحدة الوطنية وفي جدرانه التمتع بحصانة مضادة للانهيارات التي تسببها خلافات جوهرية بين المرجعيات غالبًا ما تودي بالوحدة الوطنية إلى العناية المركزة.

اتفاقات كثيرة وقعت منذ عقود، ولكل منها صدى وحضور في وعي الجماهير، لكن هذا الاتفاق ثمرة (حوار) افترضنا فيه حسن نوايا جميع الأطراف المتحاورة، فإنه ليس كغيره من حيث الإرهاصات التي تقدمته، وما سيبنى على ما بعده، فنحن الآن في لحظة لا تحتمل التراجع للخلف ولا حتى خطوة لأنها بمثابة انتحار ذاتي، كما لا تحتمل التفسيرات والتأويلات. 

فالقضية الفلسطينية والمشروع الوطني في دائرة الخطر، وعلى الجميع التحلي بالمسؤولية كما تحلت بها قيادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني، حيث يعلم الجميع أن الوطنية الفلسطينية طابعها، وأن عملية تعزيز الإيمان والانتماء الوطني وإبراز الشخصية الفلسطينية كان منذ انطلاقتها وسيبقى حتى تحقيق النصر، فتحقيقهما يتطلب إيمانا عميقا بالذات الوطنية الفردية والجمعية وتجسيدهما بأحسن صور الحوار من أجل فلسطين أفضل وأقوى.

تتنافس الأحزاب والقوى في أي بلد – وفلسطين منها- للفوز بسدة الحكومة والرئاسة والبرلمان ولتحقيق ما أمكنها من مكاسب سياسية وسلطوية، وتجرى الانتخابات العامة دوريا في مدد أقلها أربع سنوات حسب المنصوص عليه في دستور أي دولة، فتتبدل الأحزاب والوجوه الحاكمة والمنوط بها المسؤولية وفق مخرجات الانتخابات، وقد تحدث متغيرات بزاوية 180 درجة، وهذا مشروع وحقيقي دوار، لكن الحقيقي الثابت قبل الانتخابات والباقي بعدها حتى نهاية الكون هو الوطن، فالشعوب التي تتناحر وتتصارع فيه أحزاب وقوى من أجل تحقيق المكاسب على حساب الجميع فإنها ستخسر الوطن، أما الشعوب التي تتنافس من أجل فوز الوطن تكسب مجدا وقوة واحتراما بين الأمم.  

لم يكن مستغربًا شعور بنيامين نتنياهو بالحزن بعد صدور البيان الختامي عن الحوار الوطني الفلسطيني، فنتنياهو ليس متنافسًا معنا من أجل رفعة دولة الشعب الفلسطيني، وإنما العكس نراه معنيا بتشرذمنا، وصراعاتنا وخلافاتنا لأنه معني باستكمال خطة سلب أرض وطننا، وإصابة وعينا الوطني بشلل دماغي كجثة لا قدرة لها على الحراك، أو كهيكل حي مجرد من مقومات الهوية والوحدة الوطنية.

نستطيع استقدام مراقبين على الانتخابات العامة أشقاء عرب وأصدقاء أجانب ومن دول تملك تجارب واضحة وفيها علامات مميزة، لكن تطبيق منهج وبرنامج البناء الوطني لا رقابة عليه سوى الضمير الوطني الذي أثبت نجاحه في اجتياز الاختبارات المصيرية التي كانت معظمها مصممة كشراك ومصائد لإيقاعه والقضاء على وجوده، وقد برهنت حركة فتح بفضل إخلاص وصدق مناضليها على رأسهم رئيسها ورئيس الشعب الفلسطيني محمود عباس أبو مازن على صواب رقابة الضمير الوطني على كل مفاصل الحياة الفلسطينية، فالمشروع الوطني الفلسطيني لا يخضع لاعتبارات مثل عدد مقاعد هذا الفصيل أو ذاك في التشريعي أو المجلس الوطني، ولا اسم الكتلة التي ستكلف بتشكيل مجلس الوزراء بعد فوزها، وإنما لاعتبار الوطنية المسيرة للعقل الجمعي والفردي الناظم لخطط وقرارات وعمل المنتخب الذي سيتحمل المسؤولية، فهنا شعب وقضية وحقوق وتاريخ وحاضر ومستقبل على أرض الوطن، لا يمكن إلا لوطني أصيل ذي جذور وطنية تحمل مسؤولية حماية كل هذا فالأمر مرتبط بوجود شعب أكثر من مجرد شكل نظام سياسي بعينه رغم أهميته، فهذا النظام كلما كان وطنيًا بامتياز كانت فرص التحرر والاستقلال والسيادة والنمو والتقدم والازدهار أكبر وأكثر.. وبذلك نحول حزن نتنياهو ومن معه إلى داء بلا شفاء وعدوى ينقلها لمن سيأتي بعده إلينا وفي أي وقت وزمن غازيًا محتلا مغتصبًا استعماريًا عنصريًا متآمرا.