في العاشر من تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي، رحل عن عالمنا وبهدوء د.صائب عريقات رجل الدبلوماسية الفلسطينية الملقب بكبير المفاوضين، عقب إصابته بفيروس كورونا المستجد. رحل أبو علي دون وداع صاخب، حيث ودع الحياة الرجل الذي أمضى حياته مفاوضا شرسًا وهو مؤلف "كتاب الحياة مفاوضات"، حيث كان يعتقد أن كل إنسان بطبيعته وذاته مفاوض.

رحل عنا صاحب الكوفية صانع المواقف التاريخية صنديد السياسة الفلسطينية، المفكر، السياسي، المناضل، الأكاديمي والفيلسوف.

لقد حمل أبو علي القضية الفلسطينية على أكتافه، ووظف حياته الأكاديمية والسياسية لخدمتها، فطاف المنابر العالمية، وحاضر في الجامعات والكليات مدافعًا عنها، وألف العديد من الكتب مدافعا عن المحبة والسلام.

رحل صائب عريقات عن عالمنا وترك خلفه موروثا عزيزًا علينا جميعًا وهو الإصرار على الوصول للهدف. لأجله عاش أبو علي ولأجله ناضل ولأجله تمنى أن يمنحه القدر بعضًا إضافيًا من الوقت لعل وعسى أن يراه أمامه.

رحل أبو علي تاركًا خلفه كل ما هو جميل، لقد ترك الأمل، ترك الدفء، ترك البساطة، ترك التفاؤل بأن القادم سيكون أفضل.

رحل صائب عريقات وترك خلفه رسالة تلخص مشوار حياته مفادها "أن القدس هي عاصمة دولة فلسطين، ويجب أن ينال الشعب الفلسطيني حقوقه على كامل ترابه، وأن تتوحد أرض فلسطين وينتهي الانقسام". 

رحل صوت الفلسطينيين الذين يعبرون من خلاله عن رفضهم لكثير من السياسات المتعلقة بقضيتهم ومستقبلهم.

لقد مثل د.عريقات الشخصية المحورية في الساحة الفلسطينية، فهو محاور لا يمكن تجاوزه، ومثقف عميق المعرفة، يتحدث الإنجليزية بطلاقة ويتمتع بحسٍ فكاهي.

عريقات الذي أصبح عضوًا في المجلس التشريعي الفلسطيني منذ العام 1996، حظي بثقة الرئيس الراحل ياسر عرفات وكان يلقبه من باب الدعابة "شيطان أريحا" نظرًا لقدرته الفائقة على التفاوض مع الإسرائيليين وتحمله كافة الضغوط لإيصال صوت القضية الفلسطينية لأبعد الحدود.

والذي نعاه الرئيس محمود عباس بقوله: إن رحيل الأخ والصديق المناضل الكبير د.صائب عريقات يمثل خسارة كبيرة لفلسطين ولأبناء شعبنا. وإننا لنشعر بالحزن العميق لفقدانه خاصة في ظل هذه الظروف الصعبة التي  تواجهها القضية الفلسطينية.

أبو علي الذي أخذ شهرته من المسار التفاوضي الطويل والشاق مع الحكومات الإسرائيلية المتعددة، أيقن أن المفاوضات قد وصلت إلى طريق مسدود، فقال كلمته الشهيرة "نحن لا نستجدي السلام من أحد، والاحتلال دون تكلفة لن يكون، والسلطة بلا سلطة لأن إسرائيل دمرتها".

ربما هناك من يختلفون مع صائب عريقات سياسيا، ولكن ليس هناك اختلاف على إنسانيته ووطنيته وعروبته، وأنه جامع بشخصه ودوره للكل الفلسطيني. إن رحيل د.صائب عريقات لا يمثل خسارة كبيرة للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية فحسب، بل هو خسارة لكل أحرار العالم وخسارة أكبر لكل من عرفه وعايشه.

لقد بدأ عريقات مسيرته السياسية قبل مجيء السلطة الوطنية الفلسطينية، فكان السياسي والمناضل والأكاديمي، والإنسان الكاتب والصحفي، فلم يكن يؤثر عمله في مجال السياسة على حياته الشخصية ولا إنسانيته على عمله.

ربما ليس من الصواب الآن تقييم تجربة د.عريقات التفاوضية ولكنها ستترك للأجيال القدامة للحكم عليها، والشيء المؤكد أنها كانت تجربة ثرية تحمَّل فيها د.صائب ما لم يتحمله بشر من تعنت ومماطلة الطرف الآخر، وكان صامدًا كالجبل، يدرك ما يريد فكان مرجعية للعملية التفاوضية في كل مراحلها.

بوفاة د.صائب عريقات، يكون قد كُتب الفصل الأخير في كتاب صناع أوسلو من الفلسطينيين والإسرائيليين الذين خطّوا اتفاقا توقعوا أنه سيؤسس لسلام بين الشعبين، ولكن تداخلت عدة عوامل أدت إلى الوصول إلى ما وصلنا إليه الآن.

إن الشيء المؤكد أنه ليس من السهل تعويض شخصية وطنية كبيرة ووازنة مثل الدكتور صائب عريقات، وأن هناك رجالا لا يمكن تعويضهم أبدًا، ولكن كل ما يمكننا أن نقوله ونحن نخط كلمات التأبين بحق هذا الرجل العزيز علينا جميعًا: "نم واسترح يا أبا علي فإننا على العهد لقضيتنا ووطننا فلسطين باقون وأنك ستبقى في قلوبنا وذاكرتنا ما حيينا والملتقى جنان الخلد إن شاء الله.