طوفان مياه نهر النيل في السودان، وصور مآسي ومعاناة إخوتنا السودانيين وصور الضحايا والبيوت المتهدمة، والمعاناة غير المسبوقة لمئات الآلاف الذي فقدوا ممتلكاتهم وبيوتهم وأرزاقهم وباتوا بين يوم وآخر بلا مأوى، وكأن قدر إخوتنا مواجهة الكوارث الطبيعية التي تأتيهم تباعًا في كل عقد من السنين، والصمود والعمل على حلول لاحتوائها، فيما قدرنا نحن الفلسطينيين مواجهة كارثة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني العنصري القائمة منذ مئة عام تقريبًا.
لا تعبير أدبيًا أو معنويًا قد يفي إخوتنا السودانيين حقهم، ومثله المادي الذي سيكون بمقدورنا تقديمه لأشقائنا، ليس من قبيل رد الجميل، وانما من باب الوفاء لقيمنا وأخلاقنا العروبية، لكن لا بأس في هذه اللحظة العاطفية من القول بأني شهدت في السودان الشقيق قبل ثمان وثلاثين عامًا وفي مثل هذه الأيام تقريبًا طوفانا بشريًا كانت بدايته في مدينة بورسودان الميناء البحري عام 1982 عند نزولنا من السفينة التي أقلت مئات من مقاتلي الثورة الفلسطينية بعد معركة بيروت الخالدة ونهايته في مدينة شندي مرورًا بمدينة عطبرة.. ليس هذا وحسب بل ويعيد تفاصيل مشهد يستحيل نسيانه أو محوه من الذاكرة الفردية والجمعية فقد كان لي فخر تثبيت لحظاته للتاريخ بعدستي وجالت الصور في معارض نصبناها في بلدان عربية وفي فلسطين، وأقر وأعترف وأنا المؤمن بالعروبة كثقافة بأن الطوفان الشعبي السوداني الذي حملنا وعبرنا خلاله مرحلة ما بعد معركة بيروت وخروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان كان كالطوفان الذي حمل سفينة نوح وأرساها على بر الأمان.. وأضيف هنا للتاريخ أن مشهد الاستقبال العظيم قد وثق ايماننا بالعروبة ورسخ الاطمئنان في قلبنا بأن هذه العقيدة الثقافية لأمتنا باقية كبقاء الشمس في مدارها.
ما بين مدينتي بورسودان شندي مسافة تعد بمئات الأميال سافرنا خلالها بقطار شعبي، كان إخوتنا السودانيون يغطون بقلوبهم البيضاء الأنصع من بياض جلابيبهم وعمائمهم وابتساماتهم الأجمل كل متر مربع من مساحة كل محطة مررنا بها وحتى أبعد نقطة في الأفق يمكن لنا مشاهدتها، فهذا المشهد العظيم كان في عطبرة، فيما مشهد الإخاء العربي والوفاء لفلسطين وقضيتها، وللمناضلين المقاتلين الذين صمدوا في معركة تاريخية بلغ ذروته في مدينة شندي العظيمة، ويمكنني القول - وأنا الحريص على توثيق اللحظات الواقعية لسجل القضية الفلسطينية- أني ما شهدت في حياتي لا قبل ولا بعد ذلك المشهد حشودًا جماهيرية ليس من حيث العدد وحسب، بل من حيث المحبة والعواطف والمشاعر لدرجة اشعرت كل واحد منا أننا بين أحضان أهالينا، آبائنا وأمهاتنا وإخوتنا وأخواتنا وأبناء عمومتنا بعد خروجنا من جحيم العدوان الاسرائيلي على لبنان وحصار جيش الاحتلال لبيروت لمدة قاربت على المئة يوم، فإخوتنا لم يستقبلوا المقاتلين بهذه الحفاوة لأنهم خرجوا أحياء وإنما لأنهم قاتلوا بشرف وصمود وشجاعة وسجلوا كرامة جديدة للأمة هي العربية بعد كرامة العام 1968.
لفت انتباهي أن السوداني العربي الشقيق لم يحضر وحده، بل كانت عائلته إلى جانبه، يعانقوننا كأبناء، يحاولون الاستحواذ على كل واحد منا لاستضافته في بيوتهم، لقد جسدوا صورة العربي الكريم التي قرأنا عنها في قصائد الشعر وسمعناها في الحكايات الشعبية، فالكرم والإيثار والنخوة، والمشاعر الصادقة سمات تلمسها في كل معاملة يومية مع أي سوداني، بغض النظر عن الطبقة والشريحة الاجتماعية التي يحيا فيها.
الصورة الصحفية لطفلة سودانية على كتف والدها الذي يخوض في مياه الفيضان لإنقاذها ولا يظهر من جسده فوق مياه طوفان النيل إلا رأسه، ذكرتني بمشهد طفل لا يتجاوز السبع سنوات يجري موازيًا لحركة القطار وقد حمل نسخة من علم فلسطين بحجم ورقة (A4) ليس مطبوعًا ولا قماشيًا، وإنما مرسوم بألوان كالتي يستخدمها تلاميذ المرحلة الابتدائية، لكن المثير في الأمر ان الطفل الذي بدا لي أنه وصل متأخرًا إلى موقع سكة القطار كان يركض ملوحًا لنا بالعلم، في منطقة ذات تضاريس منبسطة لم أفلح برؤية قرية أو تجمع سكاني، فأدركت أن الطفل قد أتى من مكان يبعد كيلومترات انتظر مرورنا ليلوح بابتسامة متوجة بعلم فلسطين.. فهل من شك لدى أحد بانتصار قضية عادلة لأمة يكون أطفالها على هذا المستوى في اللحظات التاريخية.
نريد أن يعلم إخوتنا في السودان أنهم حاضرون في ذاكرتنا، وقلوبنا، وسنعمل على مد العون لهم ما أمكننا، وما استطعنا إليه سبيلا، فما يصيب الشعب السوداني يؤلم الشعب الفلسطيني، كتألم السودان من جراح ونزيف فلسطين.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها