سيتأكد الأشقاء العرب الآن أو بعد حين أن رؤية القيادة الفلسطينية وتعاملها مع قضية استقلالية القرار الوطني كانت أعظم درس يمكن لشعب ما زال على درب التحرر والنمو أن يستخلصه ويطبقه رغم تكلفته الباهظة، فالشعب الفلسطيني قدم خيرة مناضلية في ميدانين متوازيين، الأول الصراع المفتوح مع المشروع الصهيوني الاستعماري الاحتلالي العنصري، والآخر لصد حملات دول وقوى إقليمية وأخرى كبرى كان هدفها إخضاع القرار الفلسطيني وتطويعه كورقة خادمة لنفوذها ومشاريعها التوسعية في المنطقة، والعمل على تقزيم القضية الفلسطينية وإخراجها عن سياقها  كحركة تحرر وطنية، عبر إظهار فصائل تحمل أسماء فلسطينية وكأنها مجرد جماعات عصبوية فئوية تحمل السلاح، هدفها الابتزاز والحصول بأي ثمن على حقائب دولارات، وأموال قذرة من خزائن غارقة في شبهة التعامل مع قوى استعمارية كبرى، ومنظومة الاحتلال الإسرائيلي.

عجزت هذه القوى عن إخضاع القرار الوطني الفلسطيني، وتجسد ذلك في معركة المواجهة المباشرة مع خطة ترامب الاستعمارية المسماة صفقة القرن، حيث أثبتت قيادة الرئيس أبو مازن للمشروع الوطني استحالة إحداث خروقات في جداره، رغم محاولة البعض (الرخيص والمشكوك بوطنيته) للقفز فوقه لاستدراج عروض التبعية، لكن هذه القوى الإقليمية والدولية حققت اختراقات هائلة في أرض أقطار عربية حيث استطاعت توظيف تنظيمات وجماعات وفصائل مسلحة اغتصبت آمال الشعوب العربية بالحرية وتطلعاتها نحو حياة ديمقراطية تقدمية إنسانية وعدالة وتنمية اقتصادية تفي الجميع حقوقهم، حتى صارت هذه الجماعات – منها يعد بالآلاف – بمثابة جيوش قائمة في الأوطان تابعة لقيادة أركان جيوش واستخبارات القوى الإقليمية والدولية الاستعمارية الطامعة بالوطن العربي ومقدراته وثرواته، وبالفعل فقد مهدت هذه الجماعات المسلحة - بغض النظر عن أعدادها وشعاراتها المعلنة - الأرضية الخصبة لتحقيق أهداف (ورثة الإمبراطوريات) الشرقية والغربية على حد سواء التي استعمرت بلاد مشرق الوطن العربي ومغربه، فعملت على تمكين (الامبراطوريات الميني) الوليدة من مفاتيح بوابات البلاد، حتى إنها ولجت حقل الخيانة لأوطانها وأعلنت بألسنة مجردة من الضمير الوطني استعدادها لتكون الأراضي التي تسيطر عليها موطئ قدم جيوش حملات استعمارية جديدة، حيث الجماعات المستخدمة للدين الإسلامي وتحديدًا (الاخوان المسلمين) على تنوع مسمياتهم ومشتقاتهم في هذا القطر العربي أو ذاك، المسيطرة  بقوة السلاح، قد أخذت على عاتقها تنفيذ هذه المهمة القذرة .

ما حدث ويحدث يسير وفق مخططات رسمت في غرفة عمليات المشروع الاستعماري الجديد، ينسجم مع طموحات صناع المشروع الصهيوني بتحويل الصراع في المنطقة الى ديني، وبذلك تتحقق لهم الغلبة تحت هذا الستار، خاصة بعد نجاح وسائلهم الإعلامية العاملة على تكوين الرأي العام الدائم في دمغ  المسلمين بالإرهاب مستدلين بذلك على جرائم الجماعات الاسلاموية الدموية، أمر شكل غطاءً وتمويها محكما لجرائمهم بحق الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبتها منظومة الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي العنصرية بحق الشعب الفلسطيني.

ما حدث ويحدث من قرارات وخطابات مغمسة بمصطلحات دينية، يتم إسقاطها على القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الصهيوني وينطق بها مسؤولون كبار ويمررونها عبر وسائل إعلام هذه الدول (الميني امبراطورية) يتخذها المستعمرون الصهاينة ذريعة لقدح شرارات حرب دينية وتأجيج نيرانها لتحرق الأخضر واليابس، كيف لا وهم قد عملوا على تأصيل عقيدة لدى نسبة من الناس في العالم بالمعركة الفاصلة بين الحق والباطل في هارمجيدون يقودها اليهود وينتصرون فيها ويسوقون الأمر على أنه وعد إلهي يجب على رئيس أقوى دولة في العالم دونالد ترامب أن يحققه فعلاً عبر دعم لا محدود لمنظومة إسرائيل العنصرية، حتى إن انصار هذه العقيدة المصطنعة يهددون ترامب بعدم التصويت له في الانتخابات القادمة إن لم يفعل ما يريدون.

إن صراعنا مع المشروع الصهيوني الاستعماري الجديد البلفوري الثاني بقيادة دونالد ترامب قضية حقوق تاريخية وطبيعية، وحق في التحرر والحرية والاستقلال والسيادة وتجسيد الدولة وعاصمتها القدس، ولا يجوز لأحد حرف حقائق القضية الفلسطينية وتوظيفها لخدمة نظامه السياسي وأهدافه في زيادة تمدده وتوسعه على الارض العربية، أو إعلاء شأن طموحاته الشخصية في صنع علامات فارقة في التاريخ حتى لو كانت نتائجها دموية أو على حساب شعوب وقضايا نبيلة !!.

قد يكون سهلاً على بعض الحكام في دول (الميني امبراطورية) استدرار عواطف الجماهير ومشاعرهم الدينية، وكذلك مثلهم الذين يعلمون معنى حصانة وقوة قلعة القرار الوطني المستقل لكنهم مصممون على إحداث خروقات فيها وإضعاف مناعتها، لكنهم يجب أن يعلموا – إن كانوا حقًا جاهلين- أن ما يفعلونه خدمة مباشرة للمستعمرين الجدد ولمشروع الاحتلال والاستعمار العنصري الإسرائيلي الذي يدعون في الليل والنهار أنهم يقاومونه، فقضية فلسطين تنتصر بإعلاء مبادئ الحق والحرية والعدل والسلام التي هي جوهر الرسالات السماوية، هي نقطة التقاء وتكامل الثقافات الانسانية والحضارية، والانتصار للقضية يبدأ بالإيمان بحق تقرير الشعوب لمستقبلها واستقلال قرارها الوطني، وتعزيز مبدأ السلام والمواطنة، وليس استخدامها كوقود وحرقها في حجرة نيران قاطرتها الاستعمارية.