من الآثار الجانبية الإيجابية لجائحة كورونا أنها وضعت أدعياء الخرافة والتراث من أصحاب الدين الموازي في امتحان عسير وصعب، إذ حاكمت الجائحة تلك الخرافات التي لطالما كانت سلاح أولئك في السيطرة على عقول وقلوب الناس باسم الدين، بالتجربة والحقائق العلمية التي عايشها الناس، إذ طالت الجائحة جميع الأديان والأعراق والطوائف وجميع الشرائح والأعمار ولم تميز بين مواطن ومسؤول أو رجل دين وملحد أو غني وفقير، وفي نفس الوقت لم تفلح الوصفات العلاجية التي قدمها هؤلاء تحت يافطة "الطب النبوي"، ولا الأدعية المخصصة والمتخصصة، ولا فرضية التسليم بتفاسير النصوص القرآنية المجتزأة والمنتقاة التي استخدموها في التشكيك بالإجراءات الحكومية الواجب اتباعها لمواجهة الجائحة مثل قوله تعالى: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، وتناسوا قوله تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، وقد كان لهذه التجربة وما أفرزته من حقائق علمية أنها وجهت ضربة موجعة في صميم فكر التراث والخرافة الذي ما زالت بعض الجماعات الإسلاموية تعتاش عليه.
من ضمن هذه الجماعات، انفرد "حزب التحرير" بمعالجة خاصة به لجائحة الكورونا وبخطاب شاذ في فهمه وتفسيره وتعاطيه مع الجائحة، انطلاقًا من البنية الفكرية التراثية الغارقة في تبني نظريات المؤامرة التي يتبناها الحزب ويحاول فرضها على المجتمع، اذ رأى الحزب في جائحة كورونا في بداياتها عقابًا إلهيًا للكفار جراء (ما صنعه الرأسماليون وأشباههم... فحكام أميركا والصين وأوروبا هم سبب شقاء العالم وشقاء شعوبهم... واستدلوا بقوله تعالى: "فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين)، وعندما قررت الحكومة وفق بروتوكولات منظمة الصحة العالمية فرض إجراءات الوقاية في مواجهة انتشار الجائحة، لم يعجبهم الحال معتبرين أن "الحكام المسلمين يتبعون خطوات الكفار المستعمرين شبرا بشبر وذراعا بذراع ... وإذا اقترحوا حلاً ولو كان على غير سواء صفق له الحكام في بلاد المسلمين وعدوه صحة وشفاء"، وعندما قررت الحكومة فرض اغلاق جميع الأماكن التي تعتبر مركزا للتجمعات ومن ضمنها المساجد وهو إجراء كان محط إجماع علماء المسلمين، رأى الحزب أن السلطة الوطنية الفلسطينية "تتقصد شعائر الإسلام بالعداوة مستغلة بذلك الكورونا، ومتخذة من أفعال الحكام المجرمين الآخرين في البلاد المجاورة وفتاوى علماء السلاطين غطاء لها"، واعتبروا ذلك مؤامرة على الدين، وبدأوا بحملة تحريض وتشكيك بمجمل تلك الإجراءات، ولم يكتفوا بذلك بل مارسوا سلوكًا ضارًا فيه قدر كبير من الرعونة والتخلف، فاقتحموا المساجد وفتحوها عنوة، وأقاموا صلاة الجماعة دون الأخذ بإجراءات السلامة، وحرضوا الناس للخروج والمطالبة برفع إجراءات الحظر الصحي، وللأسف ونتيجة حالة الاحتقان والضيق التي فرضتها الجائحة واستغلال موضوع المساجد والصلاة استجاب لهم البعض، وقد كان وقع هذا التحريض كارثيًا في الموجة الثانية من الجائحة من حيث اتساع رقعة الانتشار وارتفاع عدد الإصابات بشكل كبير، وكانت محافظة الخليل وأهلها الأعزاء أول الضحايا، ولأنها الخليل وبما لها من ثقل اقتصادي وشعبي تأثرت باقي محافظات الوطن بما حل بها من مصاب.
لم يتعظ حزب التحرير من النتائج الكارثية التي حلت بشعبنا بسبب تحريضه وسلوكه الشاذ، أو يلوذ بالصمت كحد أدنى ولا نقول أن يعتذر، ولكنه استمر في حملة التحريض ولكن هذه المرة بشكل يتناقض مع خطابه السابق وبشكل أكثر فجاجة، إذ وعلى قاعدة "عنزة ولو طارت" حمل الحزب المسؤولية للسلطة والحكومة واعتبر انتشار المرض بسبب التقصير في "توعية الجمهور"، وتناسى حملة التحريض التي كانت تشكك في كل الخطوات والإجراءات التي باشرت بها السلطة ووظفت كل مؤسساتها الإعلامية والأمنية والصحية لتنفيذها وفي مقدمتها حملة التوعية المتواصلة والمستمرة على مدار كل دقيقة، ولكنهم صدقًا قالوا عندما طالبوا السلطة والحكومة بمعالجة كل المعيقات التي تقف أمام مواجهة الجائحة، وأول المعيقات هو مواجهة هذا الخطاب العبثي والمتخلف الذي تروجون له وكان سببًا رئيسيًا في انتشار الوباء، وهو ما يقتضي أن تقوم جهات الاختصاص في السلطة والحكومة باتخاذ الاجراءات القانونية المناسبة بحق قيادات هذا الحزب بتهمة نشر المرض والتحريض على الفتنة والمس بوحدة المجتمع والسلم الأهلي.
بالنظر إلى مواقف وسلوك جماعة حزب التحرير تجاه جائحة كورونا، وتجاه العديد من القضايا المجتمعية والسياسية مثل اتفاقية سيداو والمناهج التعليمية، ناهيك عن خطابهم الديني المتطرف الذي يزخر بالعنصرية والتحريض على الآخر، ويرفض مفهوم المواطنة ومفهوم الدولة، ويتعارض مع تطورات العصر والحضارة، هو نتاج بنية فكرية دينية منغلقة ومتقوقعة على ذاتها تتناقض وتتعارض مع تطور الخطاب الديني ونهج التجديد والإصلاح الذي يسعى للمواءمة بين صحيح الإسلام وتطورات العصر والحضارة، وتنقية الاسلام من كل التشوهات والشوائب التي علقت به بسبب مثل هذه البنية وهذا الخطاب الذي يريد لنا البقاء أسرى لماض تليد له ما له وعليه ما عليه، وأن نعيش تفاصيل وأحداث قبل 1400 عام ونسقطها على واقعنا اليوم دون تغيير قيد أنملة في كل ما حملته تلك الحقبة من أفكار وأحداث، كيف لا وهم يرون أن الإسلام حكر علهم، وأن لديهم تفويضا من الله تعالى في النيابة عنه والبت بأمور البلاد والعباد. وهذا لنا فيه قول آخر ضمن مقالات قادمة تعالج البنية الفكرية التراثية لحزب التحرير.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها