المقاطعة هي الامتناع الاختياري والمتعمد عن الاستخدام أو الشراء أو التعامل مع شخص أو منظمة أو بلد، كتعبير عن الاحتجاج، وعادة ما تكون لأسباب أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية أو بيئية. تهدف المقاطعة إلى إلحاق بعض الخسائر الاقتصادية بالشخص أو المنظمة المستهدفة، أو الإشارة إلى إساءة أخلاقية، لمحاولة إجبارهم على تغيير سلوك مرفوض.

ولطالما شكلت المقاطعة سلاحًا فعالًا وأداة من أدوات تغيير سلوك الدول والشركات والجماعات، ومن أقدم أشكال المقاطعة تلك المقاطعة التي فرضتها قريش على الرسول (ص) ومن آمن معه من المسلمين في حينه، في السنة السابعة لبعثة النبي، واستمرت لثلاث سنوات.

وفي عام 1880 أثناء مجاعة البطاطا في ايرلندا قاطع المزارعون في إقطاعية "تشارلز بويكوت"، كل الاعمال التي تجلب له الربح، بسبب رفضه تخفيض أجور المنازل في اقطاعيته، وادت هذه المقاطعة إلى رحيل بويكوت عن إيرلندا (اللفظ الانجليزي للمقاطعة جاء من اسم Charles Boycott)

وبين عامي 1955-1956، ولمدة 300 يوم قاطع السود حافلة مدينة مونتجمري بسبب التمييز العنصري ضدهم، وكانت هذه المقاطعة سببًا في تشريع ولاية ألاباما لقانون مناهضة التمييز العنصري.

ولا ننسى أبدًا مقاطعة الشعب الجزائري لمنتجات المحتل الفرنسي التي كانت من أقوى المقاطعات تاريخيًا، وجزء مهم من ثورتهم لنيل الاستقلال. وقصة مقاطعة الارجنتينيين للبيض التي أجبرت المنتجين على إعادة تخفيض أسعاره بعد أن رفعوها مما سبب مقاطعة المواطنين لها.

قامت جامعة الدول العربية، بمقاطعة للسلع والخدمات الصهيوينية منذ تأسيس الكيان الصهيوني عام 1948، من أجل عزل الحركة الصهيونية اقتصاديًا، وعدم تشجيع الهجرة الصهيوينة إلى فلسطين المحتلة، وتكونت المقاطعة من ثلاثة بنود، وهي:

1- مقاطعة استيراد السلع، والخدمات التي تصنعها الحركة الصهيونية

2- حظر القيام بِأعمال تجارية مع أي شخص يقوم بأعمال تجارية مع الحركة الصهيوينة والكيان الصهيوني.

3- منع القيام بِأعمال تجارية مع أي شخص أو جهة، على القائمة السوداء للجامعة العربية.

وقد كانت المقاطعة العربية سلاحًا فعالًا، حيث ومن منطق تجاري فضلت معظم الشركات الانتاجية الأسواق الكبيرة للدول العربية على سوق دولة الاحتلال الصغير، وكنا نرى في دولة الاحتلال على سبيل المثال أنواع السيارات محدودة، ومقتصرة على بضعة ماركات، وانطبق هذا على عشرات بل مئات السلع الاستهلاكية وغيرها. واستمرت المقاطعة العربية بِشكل قوي حتى عام 1980، حيث انهت مصر مقاطعتها لدولة الاحتلال، مما أدخل مصر نفسها في مقاطعة الدول العربية لها. وفي فلسطين تأسست في العام 2005 حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات اختصارًا (BDS) وتدعو إلى فرض مقاطعة دولية كلية على منتجات الاحتلال، وتصفية الاستثمارات الأجنبية فيها، وفرض العقوبات، إضافة إلى تعطيل المبادلات الثقافية والاكاديمية والرياضية والأعمال التجارية التي تتعامل مع دولة الاحتلال.

في 1980 قررت تسع دول في الجنوب الأفريقي أن تتكاتف معًا ضد دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وأن تتحمل عبء دعم حركات التحرر الأساسية الثلاث وقتها وعلى رأسها حزب المؤتمر الافريقي بِقيادة نلسون مانديلا، وبرغم العقوبات والإجراءات المضادة التي قامت بها حكومة جنوب افريقيا ضد هذه الدول مدعومة من الولايات المتحدة وبريطانيا ودولة الاحتلال (آخر حلفاء الابرتهايد) إلا أن حركة المقاطعة آتت أُكلها وانتهى نظام الفصل العنصري إلى غير رجعة.

تتصاعد أصوات الرفض والاستهجان، هذه الأيام، ضد قيام تلفزيون الشرق الاوسط (MBC) ببث مسلسلين خليجيين في سهرات رمضان، يشجعان التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، كما يسيئان لصورة الفلسطيني، بالتزامن مع تحسين صورة الصهيوني المحتل في ذهن المشاهد العربي، في جهد عارٍ جدّاً هذه المرة بعد سلسلة من "الرسائل" الأقل حدّةً خلال السنوات الماضية، حيث شكلت الرسائل المباشرة التي تبث هذه الفترة عبر MBC صدمة للمشاهد الفلسطيني بِشكل خاص وأكاد أجزم أنها شكلت صدمة لقطاعات واسعة من مشاهديها عبر العالم العربي ومنهم الخليجي بالتأكيد، بالرغم من الإيحاء بِأن شعوب الخليج تتبنى نفس وجهة نظر القناة بهذا الشأن، إلا أن هذا (تشكيل وعي الخليجي) هو المقصد الأساس لما تقوم به قنوات MBC مؤخرًا.

لطالما شكلت الشعوب العربية رصيدًا وذخرًا استراتيجيًا للشعب الفلسطيني وقضيته ونضاله عبر عقود الصراع مع المحتل الصهيوني، وقدمت له شتى أشكال الدعم، المادي، السياسي، الثقافي، بل وحتى انخراط مقاتلين خليجيين في صفوف الثورة الفلسطينية، كما كان للدبلوماسية الشعبية التي مارستها منظمة التحرير الفلسطينية على امتداد دول المهجر والشتات، أثرًا واضحًا في تحقيق تضامن ودعم الشعوب والأحزاب في كثير من دول العالم لحركة التحرر الفلسطينية ومطالبها العادلة ضد الاحتلال. أدركت القوى المعادية المتمثلة بالاحتلال وحلفاؤه أهمية العمق الشعبي العربي للشعب الفلسطيني، ومطالبه بالاستقلال، ولم تألُ جهدا في سبيل اختراق هذا الدعم والتضامن. يصنّف الإعلام كأحد أشكال القوة الناعمة ، ويصنف من أشكال القوة الناعمة، التي يتقن العدو استعمالها، بل ويمتلك العديد من الشبكات الإعلامية العالمية القوية، فهو بالتاكيد يدرك ما باستطاعة هذا السلاح تحقيقه ضد الإعداء والخصوم وحتى الحلفاء، سواء في زمن الحرب او السلم، فهو لم يتوقف (العدو) عن استخدام هذا السلاح في الجبهتين الداخلية، والخارجية، حيث هناك اهمية بالغة الحساسية لرواية كل طرف بالصراع أمام رواية الاخر.

تعتبر الدراما والأعمال الفنية من أبرز أشكال القوة الناعمة، حيث تتدخل في تشكيل وإعادة هندسة الوعي الفردي والجماعي، من خلال أعمال فنية ودرامية ترفيهية ممتعة، يشاهدها المواطن بحواسه لكنها تتغلغل أعمق من ذلك، الى الوعي، تشكيل المفاهيم والصور الذهنية، والأنماط والمحاكمات العقلية. ويُستثمَر في سبيل ذلك، العديد من النظريات العلمية، في حقول علم الاجتماع، علم النفس، علم السكان، علم الإعلام، علم العلاقات العامة..الخ لتصب كلها في خلق رأي عام يقتنع به معتنقوه، ويتبنون ما يوافقه من أنماط سلوك وعادات.

الري بالتنقيط، ربما هذا تشبيه مقارب لما يجري عبر بعض القنوات والمنصات العربية، منذ سنوات، رسائل خفية على جرعات بطيئة، موزعة مكانيًا عبر أكثر من قناة ومنصة، وزمانيًا، أما بتتابع، أو بتزامن كما يحدث الآن على شاشة MBC، حيث يعرض مسلسلي أم هارون ومخرج7، اللذان أثارًا حفيظة الفلسطينيين وغيرهم من المشاهدين العرب، حيث يقوم بِأداء الأدوار نخبة من الفنانين الخليجيين الذين تكرر ظهورهم كل رمضان وعلى مدار سنوات (تحقيق عنصر الثقة)، على قناة تعتبر الأكثر انتشارًا للعائلة العربية (توسيع رقعة الإستهداف)، ويُعرَض المسلسلان على نفس القناة (تأكيد الرسالة).. إضافة لتكتيكات أخرى تتعلق باللغة والكلمات وتعابير الوجه والجسد، والحوار والبناء (المنطقي) للفكرة، مما يطول شرحه كثيرًا، لكن ذلك يحدث أيضًا بالتزامن مع حراك واسع عبر تويتر وفيسبوك والمنتديات العنكبوتية، يقوم به (ناشطون شباب)، مثقفون، وأكاديميون، من دول الخليج خاصة السعودية والإمارات، ضد كون القضية الفلسطينية قضيتهم، ضد اعتبار دولة الاحتلال عدوهم، كم خسروا نتيجة دعمنا، ضد مكانة القدس، اضافة الى استمرار وبتوسع لما قاله الممثل السعودي "ناصر القصبي" في مقطع من مسلسل مخرج7 الذي جرى تداوله بشكل واسع عبر وسائل التواصل والذي قسّم الفلسطينيين بين وطني وخائن، أسير وباني للجدار العازل، حتى وصل الامر الى اطلاق هاشتاغ في السعودية (فلسطين ليست قضيتي) وجرى تداوله بشكل واسع حتى أصبح (تريند).

رد الفعل الفلسطيني كان نمطيًا ومتوقعًا في أغلبه، بل وربما كان هذا هو رد الفعل الذي راهن عليه القائمون على هذه الحملة الخبيثة، فقد سارع كثير من نشطاء وسائل التواصل إلى الرفض المقرون بالشتم والوصم بصفات سلبية كثيرة بدأت بالممثلين ثم القناة ثم امتدت لتشمل الحكومات وفي كثير من الأحيان تم وصم الشعب السعودي كله بتلك الصفات والشتائم، وهنا الجزء الآخر من أهداف الحملة الخبيثة، أن معرفتك بردود أفعال خصمك تجعلك تصمم الوسيلة التي تستجلب رد الفعل الذي تريد، وهو ما حصل، ولأن الشعوب العربية متشابهة إلى حد بعيد في جزئية الحميّة القُطريّة، والغيرة على البلد، أو الديرة، ولأن كل شعب يعتبر إسم دولته وحاكمها وعلمها وتاريخها جزء من مظاهر السيادة والهوية، فقد ابتدأت سلسلة جديدة من التراشق الاعلامي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بين معسكرين، مع الفلسطينيين، وضدهم، ونتوقع لهذه السلسلة من التراشق أن تمتد وتكبر ككرة الثلج، ومن غير المتوقع أن تهدأ خلال وقت قصير، آخذين بعين الاعتبار أنها ليست الموجة الاولى فقد سبقتها موجات كلما أقدم "ناشط سوشيالجي" سعودي او خليجي على شتم الفلسطينيين حيث ينبري العشرات من الفلسطينيين لشتم السعودية او الامارات (البلد والحكومة والشعب والتاريخ) فتخرج من كل طرف دفائن نفسه، او ردود فعله الآنية، حسناً، لا أحد يقول أننا يجب أن نبقى ساكتين، ولكن في كل مرة تحدث موجة تراشق ينقص التأييد الشعبي ولو بضع عشرات، والاخطر انه يجري التأسيس نفسياً لتباعد في المرة القادمة فمن لا يتأثر هذه المرة سيتأثر عند تكرار شتم دولته وشعبه وملكه وتاريخه، وهذا أمر تراهن عليه الجهات الراعية لكل هذا الخبث في هندسة الوعي وتشكيل الرأي العام بالصورة التي تريد، فما عليك سوى أن تشيطن خصمك، أو تتركه يشيطن نفسه، لتتحلل من كل وازع أخلاقي أو تأصيل نفسي للتعاطف معه في أي ظرف.

ثم نأتي لجزئية من المستهدف الأبرز، حسنًا، أن المستهدف الأبرز هم الأجيال الشابة والأطفال، فهذه مسلسلات مصنفة أنها لكل الأسرة ويتابعها الصغير والكبير، وهذه الفئة في مرحلة بدء تشكل الوعي، فالغصن اللين يسهل ثنيه، وهذه الفئة بنفس الوقت هي الانشطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهي من تمسك الكيبوردات وتَصِمُ وتشتم وتنشر، أما الناضجين فكثير منهم عاصر مراحل النضال الفلسطيني ويفهم القضية جيدًا ويعرف العدو من الصديق، ولكن يكفي من هذه الفئة تحقُّقَ هدفٍ واحد، وهو تخفيف عتبة الرفض والعداء، حتى الوصول إلى الحياد وعدم التدخل فيما يجري، ومع الوقت سيصبح هؤلاء أقلية بحكم العمر والوفاة، وسيصبح مراهقي اليوم وأطفاله، شباب الغد ومراهقيه، حاملين معهم ما زرعته فيهم القنوات الإعلامية ومنصات السوشيال ميديا.

ما العمل:

بدأت مقالي هذا بالحديث عن المقاطعة، لأعود واتحدث عنها هنا، حيث المطلوب أولاً أن تمتنع أو تُمنع الجهات الفلسطينية التي تمارس نشاطاتٍ تطبيعية مع جهات بِدولة الاحتلال، من منطلق تنظيف الإصبع، ثم يكون المطلوب، مقاطعة شبكة قنوات تلفزيون الشرق الأوسط MBC، ولكن ليس بِالشكل البسيط للمقاطعة من خلال الامتناع عن المشاهدة فقط، فهذا الشكل يحقق الاحتجاج، وما نبحث عنه هو مقاطعة تحقق التأثير وليس الاحتجاج فقط، فلو قاطع كل الفلسطينيين الشبكة فلن تتأثر على الأغلب، لأن لا معلنين فلسطينيين على شاشاتها، ولا زبائن فلسطينيين أيضًا لمُعلنيها. ولكن قد تشمل المقاطعة نفس تكتيكات حركة BDS، أو حركة المقاطعة العربية قديماً، وتشمل المستويين الشعبي ( نحن كمواطنين) والرسمي (التعامل الحكومي معها) فنتوقف كشعب عن متابعتها مطلقاً، ولا نتصل بأي من أرقام حملاتها ومسابقاتها، نمتنع عن الدخول إلى مواقعها الالكترونية أو صفحاتها عبر فيسبوك، مقاطعة تطبيق شاهد، ومقاطعة شبكة العاب ويزو، ويمتنع كل الناشطين الفلسطينيين عن إجراء أي مقابلة أو اتصال مع برنامج أو قناة من قنوات الشبكة، كما يمتنع الصحفيون الفلسطينيون عن العمل مع القناة، أما على الصعيد الرسمي، ان يتم توجيه رسالة احتجاج ومطالبة بوقف المسلسلين إلى ادارة ام بي سي وإلى الحكومة السعودية، ثم يقاطع كل المسؤولين الفلسطينيين، ورؤساء الأحزاب ورجال الأعمال أي ظهور أو تواصل مع القناة، ويفضل إغلاق مكتبها في فلسطين وطرد طواقمه غير الفلسطينية من الأراضي التي تخضع للسيطرة الفلسطينية وإعلانهم شخصيات غير مرغوب بها في أراضينا، أما على الصعيد الخارجي فلنبذل الجهد في "تشجيع" كل أنصار القضية الفلسطينية في الدول العربية وغيرها على مقاطعة القناة وإعلاناتها، والاستناد الى نقابة المنتجين العرب من أجل دعوة الفنانين العرب الى الامتناع عن الظهور على شاشات الشبكة، ودعوة الشركات الى عدم الإعلان عبر الشبكة، وربما نستطيع استخدام تكتيكات جيش الهبد الالكتروني في إغراق مواقع الشركات التي تعلن مع إم بي سي بالمنشورات الاحتجاجية التي تدعوها بادب ولطف الى التوقف عن الاعلان معها وكذلك نفعل مع صفحات الفنانين الذين يظهرون على شاشاتها. قد تثمر الحملة بوقف عرض المسلسل، أو حتى استكماله، ويتبعه تقديم اعتذار بعد أسابيع أو أشهر، وهو أمر قد يكون مفيدًا معنوياً، إلا انه عبارة عن "ضحك عاللحى" لأن الأثر النفسي وحرف الوعي قد تم، وانتهى الأمر، وسنكون جميعًا بانتظار الصفعة التالية.

الأمر طبعًا لا يقتصر فقط على هذين المسلسلين، بل يتم استهداف الوعي منذ سنوات من خلال الدراما والأخبار والاعلانات التجارية، ليس فقط عبر شبكة MBC، بل عبر قنوات متعددة، ومن خلال متابعتي الشخصية استطيع أن أُسمي عشرات الأمثلة، لكن وبالتاكيد فإن أكثرها صراحة او لنقل وقاحةً، هما هذا المسلسلان مثار الجدل.

عبدالله زماري