حتى أيام قليلة مضت كانت إسرائيل تتصرف وكأنها دولة فوق القانون وعصية على المحاسبة. فهذه الدولة، التي تم تأسيسها عبر وعد استعماري، بدأت تسجل تاريخها الأسود بجريمة التطهير  العرقي للشعب الفلسطيني، فقامت عامي 1948 و1949 بارتكاب المذابح وتدمير وحرق أكثر من 400 قرية وبلدة فلسطينية وتشريد أكثر من 800 ألف فلسطيني من ديارهم وممتلكاتهم. وبعد الهدنة بينها وبين الدول العربية واصلت ارتكاب المذابح (مذبحة بيت لقيا) في مطلع الخمسينيات، وواصلت الاعتداءات دون أي رادع.

وبعد حرب عام 1967، واحتلالها لما تبقى من فلسطين التاريخية وأراض عربية أخرى،  استمرت بانتهاك القانون الدولي، وفي ارتكاب الجرائم إلى درجة أصبح من المسلم به، أن إسرائيل متاح ومسموح لها أن تفعل ما تريد، دون أن تتوقع أي ردع أو عقوبة ومحاسبة، ولأنها فوق القانون استولت إسرائيل على الأراضي الفلسطينية وأقامت عليها مستعمراتها، ونقلت إليها المستوطنين، وقامت بضم القدس الشرقية وبنت جدار الفصل العنصري، ومارست على نطاق واسع سياسة العقاب الجماعي وتدمير منازل الفلسطينيين، وقتل المدنيين العزل، بالإضافة إلى ضم هضبة الجولان، وجرائم الحرب خلال اعتداءاتها على محافظات فلسطين الجنوبية ( قطاع غزة).

هذا التاريخ الأسود أصبح ممكنًا اليوم نبشه ومحاسبة إسرائيل بأثر رجعي، وبما ترتكبه اليوم أو غدًا من جرائم. هذا هو جوهر وأهمية قرار المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية، الذي صدر قبل أيام، والذي جاء فيه أن المحكمة استوفت الحالة القانونية للبدء في بحث جرائم الجيش الإسرائيلي، التي ارتكبت في الماضي والتي ترتكب في الضفة وقطاع غزة والقدس الشرقية. هذا القرار التاريخي وجه صفعة قوية لإسرائيل، وبالتحديد لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي أعلن أنه سيقدم على ضم المستعمرات وغور وادي الأردن إلى إسرائيل.

وإلى جانب الأهمية القانونية وما يحققه هذا الموقف من عدالة إلى الشعب الفلسطيني، فإن هناك أهمية سياسية خاصة في هذا التوقيت الذي انتهك فيه ترامب القانون الدولي عبر إعلانه أن القدس عاصمة لإسرائيل، وفي وقت يتم فيه الإعلان عن صفقة القرن، التي تعتبر في مضمونها أكبر انتهاك للقانون الدولي، وتكريسا لاحتلال إسرائيل للأرض الفلسطينية والعربية، التي احتلتها بالقوة في حرب عام 1967، والأهم في الوقت الذي ينوي فيه نتنياهو ضم أجزاء من الضفة الفلسطينية.

إسرائيل اليوم تحت مجهر محكمة الجنايات الدولية، كدولة وجيش وجنود ومستوطنين، وهذا المجهر إن رصد وبدأ بالعمل، سنقول نحن الشعب الفلسطيني ان هناك عدالة أخيرًا بعد عقود طويلة من الظلم، المهم أن تستمر المحكمة في جهودها وألا ترضخ للضغوطات الأميركية الصهيونية.

وعلينا أن نسجل للتاريخ أيضًا أن هذا الانحياز هو ثمرة الدبلوماسية الفلسطينية النشطة، فالكثيرون شككوا بجدوى انضمام دولة فلسطين لهذه المحكمة، وشككوا أصلا بجدوى حصول فلسطين على دولة مراقب في الأمم المتحدة. هذا الانجاز هو ثمرة هذا المسار السياسي الطويل والدؤوب للقيادة الفلسطينية.