أمّا بعد، أعلم (ي) حفظك الله وحماك من هذا الوباء، ووهبك الصّحة وراحة البال والهناء، أنّ الشّوق مع استمرار الحجر برّحني، مع أنّ الصّبر شيمتي، ومثلي يُذاع له سرُّ، فأنا شيخ سبعينيّ حذّرتني وزارة الصّحة، وأرعبني رئيس الوزراء "نتنياهو"، لأنّني من مجموعة دائرة الخطر.. وأمري لله تعالى.

أنا مشتاق لمشوار الصّباح من بيتي الدّافى إلى أطلال الدّامون، كي أسير بين الأشجار والأزهار والأطيار، مصبّحًا بالخير على صديقي الثّعلب، فرحًا بقفزات الأرنب، متمتّعًا بشعاع الشّمس الذّهبيّ، وبندى الجليل الفضّيّ، وبالأقحوان وشقائق النّعمان وعبير البرتقال وشذى الميرميّة.

أنا مشتاق مشتاق إلى مشوار مع الحفيدات والأحفاد الى قريتي ميعار لأقف معهم على البيادر الجنوبيّة، ونحدّق بأنف الغزال جنوبًا وبرأس النّاقورة شمالَا ثمّ نقطف الزّعتر الأخضر.

أنا مشتاق للقاء بناتي وأبنائي وأصهاري وأحفادي وحفيداتي في فناء منزلنا، وأن نتناول معًا أطباق الكبّة النّيّة من يدين معدّلتين سخيّتين، أطال الله عمر صاحبتهما ومنحها العافية.

أنا مشتاق لقبلات الأحفاد والحفيدات، وعناق آبائهم وأمّهاتهم وشمّ روائحهم المعطّرة.

أنا مشتاق لأقود سيّارتي التيوتا الى مدينة عكّا وأركنها في جوف السّور القديم، وأعبر البّوابة الجنوبيّة، وأمشي في شارع صلاح الدّين إلى باحة مسجد الجزّار، ثمّ أتناول صحن حمّص في مطعم سعيد أو صحن فول في مطعم عيسى، وأعرّج على مقهى السّلطان لأتمتّع بنفس نرجيلة وكأس شاي بالنّعنع.

أنا مشتاق للقاء أبنائي وبناتي في مدارس النّاصرة وشفاعمرو وحيفا وطمرة وأمّ الفحم والرّامة وعين ماهل ويافة النّاصرة وعرّابة وكفر برا ودنون وعرب العرامشة ودير حنّا وسخنين و... وأقرأ للصّغار قصّة "السّمكة السّخيّة" أو "ملك الفواكة" وأحدّث الكبار عن عشقي للغة الضّاد ثمّ نناقش معًا قصّة "النّخلة المائلة".

أنا مشتاق لأزور عروس الكرمل وأمشي في وادي النّسناس وأشمّ رائحة التّوابل ثمّ أسير في شارع أللنبي وأمرّ بجوار الكليّة الأرثوذوكسيّة العربيّة حيث قضيت سنوات شبابي، ولا بدّ بعدئذ من أن أزور حيّ الألمانيّة وأشرب فنجان اسبرسو وكأس عصير رمّان في مقهى من مقاهيها.

أنا مشتاق لزيارة قرى الكرمل المهجّرة برفقة اخوتي أعضاء لجنة الوفاق الوطنيّ ونسمع معًا شرح أبي داوود عن كل قريّة وبيت وشجرة وحجر وبئر وسهل ووادٍ.... وتاريخ.

أنا مشتاق لزيارة مدينة البشارة ولقاء الأصدقاء وشرب القهوة مع رياض في مقهى بجوار عين العذراء وتناول صحن كنافة في الصّداقة أو المختار..."ويلعن أبو السّكريّ"!!

أنا مشتاق لزيارة عروس البحر والوطن والثّقافة، يافا الجميلة، والجلوس في مقهى في الميناء التّاريخيّ مع الأصدقاء نسيم ومصطفى وجبرائيل وعودة والحديث عن العمل لأنهاء الاحتلال وعن القدس الشّرقيّة عاصمة فلسطين الأبديّة.

أنا مشتاق لزيارة زهرة المدائن ودخول البلدة القديمة من باب العمود والسّير على خطى السّيد المسيح وعمر بن الخطّاب والوليد بن عبد الملك وصلاح الدّين وفيصل الحسينيّ، وأمشي حيث مشى روحي الخالديّ واسعاف النشّاشيبي وخليل السّكاكينيّ وداوود سعيد وكمال ناصر، وأزور كنيسة القيامة ثمّ أصعد الى المسجد الأقصى وأصلّي صلاة الظّهر وركعتي العصر جمعًا وقصرًا وأخرج من باب الأسباط.

أنا مشتاق لزيارة رام الله الجميلة، عروس الثّقافة والسّياسة، ودخول مكتبة الشّروق بحثّا عن روايات جديدة، وشرب فنجان قهوة مع خضر وحسن ومحمود ثمّ زيارة حديقة البروة ولقاء د.زياد ويحيى وغسّان وسعد وسمير و...ولا بدّ من زيارة الضّريح وقراءة الفاتحة على روح الشّهيد أبي عمّار.

أنا مشتاق أن يرّن هاتفي وأسمع صوت أبي فريد "أنا في طريق العودة من حيفا. أعدّ القهوة فبعد ربع ساعة سأكون عندك! يا هلا يا هلا!!

أراني عصيّ الدّمع شيمتي الصّبر يا أبا فراس ويا سيّدة الغناء. أجل أنا مشتاق، ولكن.. هل كلّ هذه النّعم كانت لي؟

حقًا.. "إن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها".