قد يكون لبنان أكثر من أي وقت بحاجة الى أعجوبة تخرجه من خندق أزماته المتشعبة. أكثر من ستين يوما على انتفاضة 17 تشرين التي خرج فيها الناس الى الشوارع احتجاجا على سياسات أهل السلطة، رافقتها جولات من التعثر في تكليف رئيس لحكومة ينتظرها ملفات ساخنة ومستجدة فرضت بقوة الشارع لم تكن في حسبان المسؤولين.
استطاع الضغط الشعبي اسقاط حكومة الحريري مشترطا أخرى تكون من الاختصاصيين، وتستبعد عنها كل الوجوه النافرة التي دفعت بالبلاد الى التأزم. أهل السلطة استنفدوا كل وقتهم في هندسة الأسماء التي تصب في خدمة مصالحهم ومكتسباتهم، فيما كان اللبنانيون يتدبرون أمور بعضهم ويتبادلون جمع التبرعات لصد شبح الفقر والعوز الذي يهدد حياتهم.
حسان دياب مولود الساعات الأخيرة في عملية تكليف رئيس للحكومة هو محط خلاف وانتقاد باعتبار ان تسميته أتت من قوى 8 آذار، وبالتالي حكومته ستكون خاضعة بقراراتها لسيطرة فريق واحد، أضف الى ذلك ان اسمه غير متوافق عليه في بيئته الحاضنة التي عبرت عن ذلك بعد لحظات تسميته رافضة الاملاءات عليها بأسماء، انعكس ذلك توترا في أكثر من منطقة بعد اعلان التكليف وحتى ساعة متأخرة من الليلة الماضية.
الشارع الذي يطالب بحكومة حيادية يعتبر ان السلطة تجاهلت صوته مرة اخرى، باعتبار ان دياب كان وزيرا في احدى الحكومات المتهمة حقبتها بالفساد، وبالتالي ان أهل السلطة يعيدون الأمور الى نقطة الصفر في تأجيجه.
دياب الذي يحاول بعد التكليف استرضاء الفرقاء ملمحا في توجهاته تشكيل حكومة اختصاصيين يتجه البعض الى منحى اعطائه الفرصة التي تتجلى نتائجها الأولية في الحكومة التي سيشكلها والأسماء التي تضمها، فيما تجزم أغلبية معارضة لهذا التكليف ان الحقبة لا تحتمل الاحتمالات والتجارب وان متل هذه الحكومة لا يمكنها ان تعالج الأزمات، وتستعيد الثقة المفقودة بين السلطة والمواطنين، ولا بين الدولة اللبنانية والمجتمع الدولي، وبالتالي الأمر سيزداد سوءا وتعقيدا.
لا شك ان المرحلة الدقيقة التي يمر بها لبنان تتطلب حكومة حيادية تسترضي الجميع، قادرة بمختصيها في الوزارات على ايجاد الحلول المنطقية والعلمية بعيدا عن السياسة، وان الشلل الذي يصيب القطاعات كافة بحاجة الى خطط انقاذ يديرها مختصون لا يفتقر لهم لبنان وفي كل المجالات.
تكليف دياب الذي رافقته احتجاجات الشارع ومعارضة قوى سياسية ليس بمنأى ايضا عن ضغوط المجتمع الدولي الذي يفرض على لبنان اليوم شروطا لمساهمته في المساعدات والمشاريع الاستثمارية الكبرى، وفي اولياتها حكومة حيادية قادرة على القيام بالاصلاحات وترضي اللبنانيين كافة.
ان التحدي الأكبر الذي تواجهه حكومة دياب أو غيرها يبرز في الحرب الاقتصادية التي يعيشها لبنان. بعض الخبراء لم يتوانوا عن التحذير من مجاعة تطال اللبنانيين، إذ ان انهيار القطاعات بدا برمي أثقاله على حياة اللبنانيين، فازدادت البطالة وغلت الأسعار في السوق المحلية، والعملة الوطنية سحقتها السياسات المصرفية.
دين عام يصل لحدود المئة مليار دولار، وقطاع مصرفي يواجه من الخارج بالعقوبات الأميركية، ومن الداخل بفقدان الثقة والذي يعد الخطر الأكبر اليوم في زعزعة الاقتصاد اللبناني، فلم يعد بالخفاء على أحد ان استشارات التكليف المفرج عنها بعد أكثر من شهرين تزامنت مع تخفيض وكالة "ستاندرد آند بورز" للتصنيفات العالمية تصنيفاتها الائتمانية طويلة الأمد لثلاثة مصارف لبنانية الى حالة التعثر بسبب السياسات المعتمدة مع المودعين والتي تخالف عقودها المبرمة معهم، إذ انهم باتوا عاجزين عن الحصول على ودائعهم في الأوقات المحددة، اضافة الى ما تمارسه تلك البنوك من قيود على عمليات سحب الودائع بالدولار الأميركي، والحد من تحويل الأموال إلى الخارج في ظل الحديث عن تهريب أموال النافذين فقط.
أزمة تستلزم "تلاقي" كل الفرقاء اللبنانيين وبالتالي حكومة دياب التي تفتقده وان أتيح لها ان تولد فهي لا تمتلك مقومات الصمود في مرحلة دقيقة يعيشها لبنان.. تعثر سياسي وآخر اقتصادي ومالي لم يكشف النقاب بعد عن كل حقائقه، والمفاجآت تنتظر الجميع وربما التعثر الاجتماعي يستبق المشهد، ولو ان السياسيين يستأخرونه بغض الطرف عن الحالات الاجتماعية الصعبة التي تكشفها وسائل الاعلام يوميا أو "بسطات الاغاثة" التي انتشرت في كافة المناطق في محاولة من أهل الخير لابعاد شبح المجاعة عن الاخوة في الوطن..هذا هو الواقع والمرحلة صعبة والتحديات أصعب وحقا.. أعجوبة قد يحتاجها لبنان.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها