بيان صادر عن قيادة حركة "فتح" في لبنان
(في الذكرى السنوية للانتفاضة الأولى، انتفاضة جنرالات الحجارة، نستذكر الشهيد القائد خليل الوزير أبا جهاد، مهندس الانتفاضة، وراعيها، والساهر على مسيرتها، وعلى أهلها)
يا جماهير شعبنا الفلسطيني في كلِّ بقاع أرض الوطن، وفي كلِّ بلاد الشتات المتأهبين للعودة، وبناء الدولة المستقلة، وعاصمتها القدس الأبية عروسة الديار العربية والإسلامية...
إنَّ الانتفاضة هي مصطلح كرَّسته وفعَّلته على أرض الواقع السياسي والكفاحي منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال التمرد على الاحتلال الصهيوني العسكري على الأراضي الفلسطينية، والاعتماد على الحراك الشعبي الشامل والمتواصل، وبطرق وأساليب بعيدة عن تصاعد العنف المسلح، وهي أقرب إلى العنف المدني، والغضب الجماهيري لكبح جماح الاحتلال الاستعماري، وإرغامه على إعادة حساباته، والتراجع عن ممارسة القمع والعنف وانتهاك حقوق المواطن الفلسطيني صاحب الأرض، المتجذِّر فيها منذ فجر التاريخ. وعادة ما تسود هذه الانتفاضة، خاصة تلك التي اندلعت في ٩-١٢-١٩٨٧ الإضرابات، والتظاهرات الشعبية إضافةً إلى إغلاق الطرق، والتمرد على إجراءات الاحتلال وقوانينه، ورفض التطبيع أو الانصياع له، وممارسة الاحتكاك بقواته بشكل منظَّم ومدروس، مع استخدام الأدوات الشعبية بعيدًا عن العسكرة، وفي ذلك إرهاق، وإرباك، وكشف القناع عن وجه الاحتلال النازي الصهيوني، وممارساته الإجرامية أمام العالم بأسره، وفضح سياساته الاستعمارية، والإعلان عن جرائمه الهمجية التي تستهدف الأطفال والنساء والجماهير المتظاهرة، والمحتجة، والمعتصمة ضدَّ الاحتلال الصهيوني.
إنَّ شرارة الانتفاضة الشعبية والثورية الكبرى بدأت في ٨-١٢-١٩٨٧، ففي ذلك اليوم قامت شاحنة إسرائيلية بصدم سيارتين مدنيتين تقلان عمالاً فلسطينيين عند حاجز ايريز في قطاع غزة، واستُشهد أربعة فلسطينين من مخيّم جباليا. وهذا الحدث الإجرامي الصهيوني لم يكن معزولاً، وإنما كان جزءاً لا يتجزّأ من مجمل السياسات الاستعمارية التي يمارسها هذا الكيان المحتل لأرضنا بحق شعبنا الرازح تحت الاحتلال، والإجراءات العسكرية والوحشية الانتقامية بهدف طرد وتشريد الأهالي من أرضهم التاريخية: فالاعتقالات منذ العام ١٩٦٧ وحتى ذلك التاريخ تجاوزت نصف مليون، كما تم خلال هذه الفترة هدم (١٤٠٠) بيتاً حتى العام ١٩٨٧. كما أنَّ الاحتلال كان يسرق الكمية الأكبر من الماء الفلسطيني، وتقارب (١٢) ضعفاً لما يستعمله الفلسطيني. كما تم إبعاد ما يقارب ألفي فلسطيني من فلسطين لغاية ١٩٨٧، أضف إلى ذلك مصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات بشكل مُكثَّف ومتواصل.
مع انتشار أخبار الجريمة الصهيونية، اكتظت الشوارع بالمتظاهرين يحملون الأعلام، ويطالبون الاحتلال بالرحيل، ويرجمون الجنود بالحجارة. وهذا ما جعل فصائل "م.ت.ف" تسارع إلى تشكيل القيادة الوطنية الموحَّدة، وهي التي أخذت على عاتقها رسم الخطط للقيادة الميدانية، وأيضاً تحديد المواقف السياسية والإعلامية. والبيان الأول الذي صدر عن هذه القيادة حمل اسم "القيادة الوطنية الموحَّدة لتصعيد الانتفاضة" في ٩-١-١٩٨٨ أي بعد شهر من الانطلاقة.
القيادة الوطنية الموحدة التي قادت الانتفاضة الشعبية منذ العام ١٩٨٧ ولغاية ١٩٩٣ أثبتت جدارتها، وقدرتها على قيادة أعظم انتفاضة في تاريخ الشعب الفلسطيني، وكان شعارها الأبرز "لا صوتَ يعلو فوق صوت الانتفاضة، صوت منظمة التحرير الفلسطينية".
لقد نجحت الانتفاضة في قيادتها الميدانية، والسياسية لهذه الأنشطة، في التحركات، والمواجهات، والتعقيدات اليومية، وحافظت على الموقف الشعبي الموحَّد. وعلى استمرارية الكفاح الوطني.
إنَّ القيادة الوطنية الموحَّدة امتلكت سعة الأفق التنظيمي والسياسي، والوحدوي، إضافةً إلى الخبرة الطويلة في مقارعة جيش الاحتلال، ومعرفة نقاط ضعفه. ولهذا سارعت إلى تشكيل لجان متعددة لمتابعة مختلف القضايا الجماهيرية، والأمنية، والقضائية، والتربوية، بما في ذلك التعليم، والصحة، والشؤون الاجتماعية، وهذا ما ساعد على استمرار الانتفاضة الأولى لغاية ١٩٩٣ ولا بد للاطلاع على كافة الجوانب الميدانية، والاجتماعية، والتنظيمية والتطورات الأمنية، تم توجيه التعليمات والارشادات لحماية الانتفاضة.
ولا بد أن نذكِّر هنا بالدور القيادي المميز للشهيد أبو جهاد الوزير مهندس الانتفاضة، والذي كان يتواصل يومياً مع قيادة الانتفاضة الأولى التي استمرت لغاية العام ١٩٩٣.
في ظلِّ هذه الانتفاضة كان الانجاز الأهم هو عقد المجلس الوطني الفلسطيني في ١٥-١١-١٩٨٨، وهو المجلس التوحيدي بعد مسلسل من الخلافات الداخلية، وفي هذا المؤتمر تم الاعلان عن وثيقة الاستقلال الفلسطينية التي صاغها الشهيد الراحل الشاعر محمود درويش.
ومن إنجازات الانتفاضة الأولى، أن هذا الكفاح الوطني المتواصل لغاية ١٩٩٣، بما فيه من إنخراط كافة الشرائح الاجتماعية الفلسطينية، وعلى امتداد الوطن شباناً، وأطفالاً، ونساءً، ورجالاً، وطلاباً، كان له كبيرُ الأثر في الضغط الفلسطيني على الجانب الأميركي والصهيوني، وعلى مختلف الأطراف التي عارضت مشاركة "م.ت.ف" في مؤتمر مدريد، بأن ترضخ في النهاية وتقر بالحقوق الفلسطينية التي أُقرت لاحقاً في إتفاق أوسلو، وتم التوقيع عليها، ومنها الاعتراف الإسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وحقه بإقامة دولته الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية على حدود العام ١٩٦٧، كما تمت الموافقة على عودة ما يزيد على ثلاثماية وخمسين ألف فلسطيني، وهم أعضاء في "م.ت.ف" مع عائلاتهم، ثم تزايد العدد حتى وصل إلى خمسماية ألف تقربياً.
كما أنه من أهم إنجازات الانتفاضة الأولى أنها بنت وأسست جيلاً بكامله امتلك تجربةَ وخبرةَ مقاومة الاحتلال تحت أقسى الظروف، وأصبحت هذه الثقافة الثورية هي العامل المهم أيضاً في نجاح الانتفاضة الثانية في ٢٩-١١-٢٠٠٠ (انتفاضة الأقصى).
إنَّ هذه الانتفاضة الشعبية في ٩-١٢-١٩٨٧ شهدت استشهاد (١٢٠٤) شهيداً، وأكثر من (٨٠ ألف) جريح، ونحو عشرة آلاف معتقل. كما أن مستوى المعيشة انخفض بنسبة ٣٥%.
وفي المقابل قتل (١٦٩ إسرائيلياً)، وجرح عدة مئات، كما أحدثت هذه الانتفاضة شرخاً سياسياً داخل المجتمع الإسرائيلي، بسبب سياسة تكسير عظام الفلسطينيين، ودفن البعض أحياء كما حصل في قرية سالم قرب نابلس!
*إنَّ الشعب الفلسطيني الذي خاض معركة الحرية والاستقلال، وإثبات الوجود الوطني على الأرض التاريخية، واستطاع أن ينتصر على جيش الاحتلال وسياساته الدموية، وعلى جرائم تكسير العظام، واستطاع تعرية هذا الكيان الصهيوني من كل الادّعاءات المزيَّفة بالديموقراطية، وإبرازه على حقيقته أمام العالم بأسره.
إنَّ أوَّل درس من دروس الانتفاضة الأولى المُستفادة، هو النجاح في تكريس الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتوحيد القرار الفلسطيني المتعلق بكافة تفاصيل مستقبل، ويوميات، وتطورات، وأدوات، وحيثيات الإنتفاضة، واستراتيجيتها.
ولا شك أنَّ تجسيد وحدة الموقف السياسي الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية والتئام الشمل، والتوافق على الأهداف، هو الذي أثبت الحضورَ السياسي والوطني على أرض الواقع، وأيضاً على المستويات الدولية، والمؤسسات الجنائية، والقانونية، وحقوق الانسان.
ونحن نستخلص العبر من الانتفاضة الرائدة، انتفاضة جنرالات الحجارة، نستذكر الشهيد البطل أبو جهاد الوزير مؤسس ومهندس هذه الانتفاضة الشعبية، والذي استطاع أن يدير شؤونها اليومية، ويشرف على كل كبيرة وصغيرة، حتى اكتسب لقب مهندس الانتفاضة، هذه الانتفاضة التي أسندت إلى جيل الأشبال المدرَّب والمعبّأ والمنظَّم والذي استطاع بفضل توجيهات الشهيد أبو جهاد الوزير أن يصنع هبَّةً شعبية تمكَّن أبطالها بحجارتهم المباركة أن يشلّوا جيشاً مميزاً بجبروته وعنصريته، لكنه كان عاجزاً أمام إرادة شعب الجبارين.
إنَّ الإرادة والصلابة والعنفوان، والطاقة الوطنية التي شهدتها انتفاضة أشبال الحجارة ما زالت كامنةً في أجيالنا الصاعدة، وفي وعي جيل الثورة، وهذه الرسالة إلى ترامب ونتنياهو حماة الصهيونية، وصنَّاع المجازر والإرهاب والمآسي، في محاولة يائسة لإبادة الشعب الفلسطيني، وتدمير قضيته السياسية والوطنية العادلة، نذكِّرهم بأنَّ الشعب الفلسطيني لن يستسلم, ولن يرضخ، وما زال، وسيبقى يمتلك القدرة على صنع الانتفاضات الشعبية وغير الشعبية، فالإيمان عميق، وأدوات القتال والمواجهة متوافرة ومباحة، ولكل مرحلةٍ معطياتُها، وللصبر حدود.
وكما استطاع القائد الوطني، ورئيس دولة فلسطين، محمود عبّاس "أبو مازن" أن يقول لترامب وحاشيته الحاكمة: لا لترامب... لا لصفقة القرن... القدس عاصمة فلسطين، وهي ليست للبيع... والمقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين هي مقدساتنا، والأرض لنا... وشهداؤنا، وأسرانا، وجرحاناهم رموزنا الوطنية الناصعة الذين صنعوا تاريخنا وأمجادنا.
إنَّ الانتفاضة الأولى، إنتفاضة جنرالات الحجارة، انتفاضة الشهيد فارس عودة، الذي تحدى هو وأبناء جيله من الأطفال والفتوة غطرسةَ جيش الاحتلال ودباباته.
إنَّ الانتصار السياسي، والإعلامي، والميداني الذي تحقق هو الذي فتح الطريق واسعاً أمام الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى في العام ٢٠٠٠. ومسيرتنا ستبقى كلها انتفاضات متواصلة حتى تحقيق الانتصار، وإزالة الاحتلال، وإقامة دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على أرضنا.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار.
والحرية والعزة لأسرانا البواسل.
والشفاء لجرحانا الأبطال.
وإنَّها لثورةٌ حتى النّصر.
قيادة حركة "فتح" في لبنان
إعلام الساحة
٨-١٢-٢٠١٩
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها