لا شيء ينبهك الى عنف الزمان وأثر عدوانه عليك، إلا لقاءك بأصدقاء عبروا تاريخك، حينها ترى صورتك في مرايا وجوههم. وتكمن مأساتك، حين لا يمس الزمن مشاعرك، التي لا تهرم معك! وكأنك تقف محايدا على حافة رصيف الوقت.

وأتذكر الروائي عاصم الجندي. حين كان يُعدّ كتابه، "أحزان العاشق العجوز". وفيه ما فيه من تذمر لثقل السنين على كاهليه. ربما كان في السابعة والستين من عمره، ولم يشهد ولادة كتابه الأخير.

ذات حين عدت الى بيروت، سرت في حيّ قديم. مررت بدكان خضراوات وفاكهة، اعتدت التسوق منه في زمن مضى. وجدت صاحب الدكان، ما زال شابا، ولم أنتبه كم من الوقت مرّ على غيابي. 

حيّيته" مرحبا يا حسين".. أجابني أنا علي ابن حسين! أخذني بعض الوقت حتى استوعبت الصدمة، فقد خلت أن كل الأشياء حولي تكبر وتهرم ما عداي! ولم أدر سبب حرص الزمن على تجنبي.. أيعقل أن أشهد ثلاثة أجيال تعبر الزمن أمامي، وأنا أقف متفرجة على رصيف نسيه الوقت!

 بيروت مسرح ذاكرتي وذكرياتي الخاصة. قبل اسبوعين، وخلال تصوير تقرير لتلفزيون فلسطين، التقيت لأول مرة بالمصور التلفزيوني الشاب. ربما لفتني فيه شيء لم أدره. أهديته نسخة من أحد كتبي. مساء اتصل بي الشاب واسمه محمد. قال لي أبي يعرفك جيدا، وهو يبلغك سلامه. ويأمل بلقائك. وأخبرني الشاب، كيف كان نائما، حين أيقظه والده بشيء من القوة، وكان يحمل الكتاب بيده: هل تعرف الـ "مس حنان"؟ وحكى الشاب ما أخبره والده عن مدرّسته في ثانوية مار الياس في بيروت. 

رامي هو اسم والد الشاب، وهو تلميذي الذي لا أنساه. باختصار كان أسدا برّيا، مع فريق من المشاغبين الذين لا يقلون شراسة عنه! في ثانوية مار الياس، التي يتم النقل التأديبي لكل أستاذ تتم معاقبته، انتقلت اليها بملء إرادتي. العديد من طلابها من المنتمين لأحزاب وفصائل متناحرة وغالبا ما كانت اشتباكاتهم مسلحة وعنيفة. ولم يفلح مدير المدرسة ولا المعلمون التابعون لفصيل هو الأكثر سطوة، في السيطرة عليهم.

منذ اليوم الأول لدوامي، حضرت الفرقة المشاغبة، التي غالبا ما تتغيب، وتأتي بسلاحها الى الصفوف. حاولوا استفزازي بكل الوسائل. يمر الواحد منهم مظهرا مسدسه على وسطه. وآخر يلاعب قنبلته مثل طابة صغيرة. ينتشرون في الصف على مسافات متباعدة، ويتحدثون بأصوات مرتفعة خلال الدرس. يدخلون ويخرجون بلا إذن. تفرقهم انتماءات فصائلهم ويجمعهم حب المشاكسة وإزعاج المعلمين. لم يفلح المدير في ضبطهم، ومنعهم من إدخال السلاح الى الصفوف. كان رامي أحد أفرادها وربما أشرسهم. أما صديقه رامبو، فهو لا يقل شغبا عن البقية. 

أعترف أني كنت أخشاهم، وأعمد الى تجاهلهم، وما أن أدير محرك سيارتي بعد الدوام، تأخذني موجة بكاء طويل. الى أن قررت دخول التحدي مدفوعة بشعور المسؤولية الوطنية، تجاه أفراد من شعبي تحتاج التوجيه. بدأت بقضاء وقت الاستراحة مع فنجان قهوتي، في ملعب المدرسة، فيأتى رامي إليّ، أفتح معه حديثا خاصا، متجاهلة سلوكياته في الصف. أسأله.. يحدثني عن أموره الشخصية. أصغي اليه وأتفهم كلامه. تكرر الموقف لعدة أيام، معه ومع بقية المشاغبين. 

وربما من باب الخجل ثم الألفة، انتظم المشاغبون المشاكسون. وصار السلاح ممنوعا. ذات مرة حضر رامي مع مسدسه، استنكرت الأمر بهزة من رأسي، فهم الأمر، وضع المسدس أمامي على الطاولة، لم أظهر له خوفي، طلبت منه، إخراجه، أي المسدس، من المدرسة، فامتثل للأمر. اجتماع الشباب معي، قرّب بينهم على اختلاف انتماءاتهم السياسية وعنف فصائلهم.

في زيارتي لرامي، في مخيم برج البراجنة، قبل أسبوع، استعدنا ذكريات ماضية. سـألته عن رامبو. اتصل به، وقال له: هناك من يريد ان يتكلم معك. تحية وجملة قصيرة مني، وعرفني. قال رامي: والله يا مس، كنت نقطة ضعفي، حين أختلف مع الإدارة، يهددونني بك! أعرف أنك لا تملكين العضلات المفتولة، ولا السطوة المستندة الى جهة سياسية، لكنك استطعت ترويضنا بالمحبة! 

ويوم خرجت من الاعتقال، أقام رامي، وفرقة الذين كانوا مشاغبين، حفلة دبكة في المدرسة، على صوت "القربة" والعلم الفلسطيني. في السهرة، قبل أسبوع قلت لرامي، لم أتخيّل أنك أب لشاب ناضج. أجابني: وصرت جدا ولدي أحفاد.. فشهقت.. يا الهي كم قرنا من الزمان، مضى على وجودي في هذه الدنيا!