ليست السّياسةُ في الحالةِ الفلسطينيّةِ فنَّ تحقيقِ المُمكِنِ، لكنّها قهرُ المُستحيلِ، ولو رضيَ الفلسطينيُّ بالاستسلامِ إلى "المُمْكنِ" لما كانَ حَريًّا بهِ أنْ ينتمي لوطنِهِ ويرفضَ طأطأةَ رأسِهِ والاستسلامَ للواقع. فقدْ تمسّكَ شعبُ فلسطينَ بالخيارِ الأصعبَ عندما قرّرَ التمسّكَ بحقّهِ في وطنِهِ رغمَ ارتفاعِ أصواتِ من يردّدونَ على مسامعهِ دومًا: ألمْ نَقُلْ لكَ أنَّ السّلامةَ تكمنُ في قبولِ ما يُعرَضُ عليكَ اليومَ لأنّك لنْ تحصلَ على نصفِهِ غدًا؟ وينسى أولئكَ "الواقعيّونَ" أنَّ الوطنَ لا يقبلُ القِسمةَ إلا على واحدٍ، لأنّهُ جزءٌ من الإنسانِ، ينتمي إليهِ ويمنحُهُ اسمَهُ وملامحَ وجهِهِ، بينما يبقى الغرباءُ دونَ أسماءٍ أو ملامحَ واضحةٍ مهما طالَ أمَدُ وجودِهم في أرضٍ ليستْ لهم، ومَهما تظاهروا بتشابُهِ أسمائهِم مع تضاريسِ البلادِ فإنَّ الأرضَ لا تقبلُهم وتصرُّ على أنّهمْ مارّونَ في لحظةِ غفلةٍ من التّاريخِ سرعانَ ما تنتهي ليصحو ويَنفُضَ عنْ ردائهِ غبارَ وجودِهم.

 

لمْ يكُن الموقفُ الفلسطينيُّ برفضِ اقتسامِ الوطنِ مع الغُرباءِ موقفًا عبثيًّا، وإذا كانَ بعضُ الضّعفاءِ يعيبونَ على شعبِنا تمسّكَهِ بحقّهِ بكاملِ وطنِهِ عندما تجاهلَ العالمُ هذا الحقّ واتخّذَ قرارَ التّقسيمِ في ٢٩-١١-١٩٤٧، ويتذَرّعونَ لتبريرِ لَومِهم للفلسطينيِّ بأنَّ الحاضرَ أسوأُ بكثيرٍ مما كانَ يمكنُ أن يحصُلَ عليهِ لو أنّهُ كانَ قد أنصتَ لأصواتِ "العُقلاءِ"، فإنّهُم يتجاهلونَ طبيعةَ المشروعِ الصّهيونيِّ في فلسطينَ ويتناسَوْنَ بسذاجةٍ أو بسوءٍ نيّةٍ أنَّ هذا المشروعَ منذُ بداياتِهِ وحتّى الآنَ لمْ يكُن مشروعًا يُمكِنُ التّحايُلُ عليهِ أو وقفُهُ والحدُّ من تدحرجِهِ بمجرّدِ الموافقةِ على جزءٍ منهُ ورفضِ جزءٍ آخر. لقدْ كانَ الفلسطينيُّ أمامَ خيارَيْنِ لا ثالثَ لهُما: إمّا الاستسلامُ للمخطّطِ الصهيونيِّ بكاملِهِ والتّخلّي عنْ حقّهِ في وطنِهِ، وإمّا رفضُ الانصياعِ إلى منطقِ القّوةِ والظُّلمِ وعدمُ منحِ الشّرعيةِ لهذا المشروعِ ورفضُ نتائجهِ. ونحنُ على يقينٍ أنَّ القبولَ بعقليّةِ "مجاراةِ" المشروعِ الصّيهونيِّ والموافقةِ على التعاملِ معهُ في بداياتِهِ كانتْ ستؤدّي إلى القضاءِ على أبسطِ مقوّماتِ الحقِّ الفلسطينيِّ وتُنهي إمكانيّةَ المُطالبةِ بهذا الحقِّ في المُستَقبل.

 

كيفَ نفسِّرُ إذنْ النّضالَ الفلسطينيَّ لاستردادِ جزءٍ من الحقِّ يقلُّ كثيرًا عمّا رفضَهُ شعبُنا سابقًا، واعتبارَ ذلكَ هدفًا للإجماعِ الوطنيِّ؟ للإجابةِ على هذا السّؤالِ لا بدَّ من التّذكيرِ مرّةً أخرى بطبيعةِ المشروعِ الصّهيونيِّ الذي اكتملتْ ملامحُهُ ووصلَ إلى تحقيقِ أقصى ما يمكنُ تحقيقُهُ، ورغمَ ما يمتلكُهُ من عناصِرِ القوّةِ فإنَّهُ لم يتمكّنْ من تجاوزِ عقدةِ بروزِ وتنامي الشّخصيةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ التي لم تضمُر أو تتلاشى تحتَ وطأةِ الهجمةِ الصّهيونيّةِ. ويعودُ الفضلُ في ذلكَ إلى عاملينِ رئيسَين: الأوّلُ هو الثّورةُ الفلسطينيّةُ المعاصِرةُ بقيادةِ منظمةِ التحريرِ الفلسطينيّةِ، والثّاني هو الحقُّ الفلسطينيُّ الذي لم يتنازلْ عنْهُ آباؤنا وأجدادُنا ولم يُصغوا لأصواتِ "العقلاء" و"الواقعيّينَ" المناديةِ بالقبولِ بمنطقِ "نصفِ حقٍّ ونصفِ استسلامٍ" وهو في الحقيقةِ استسلامٌ كاملٌ دونَ ذرّةِ حقّ. هكذا نفهمُ النّضالَ من أجلِ إنجازِ أهدافِنا بالعودةِ وإقامةِ الدّولةِ الفلسطينيّةِ المُستَقلّةِ، فهي نهايةُ مرحلةِ الصّمودِ في وجهِ محاولاتِ إجبارِنا على التّخلّي عن حقّنا التاريخيِّ في وطنِنا، وهي بدايةُ مرحلةِ تراجعِ وانحسارِ المشروعِ الصهيونيِّ وإقرارُ قادتِهِ باستحالةِ فرضِ شرعيتِهِ على شعبِنا. هذا يعني أنَّ الصّراعَ يعودُ إلى النقطةِ الأولى، لكنَّ الأدوارَ تنقلبُ هذهِ المرّةَ: نحنُ مستعدّونَ لاستعادةِ جزءٍ من الحقِّ والوطنِ، وعدوّنا يدرِكُ جيّدًا أنَّ شرعيّةَ وجودِهِ لا تحتمِلُ التّجزئة. 

 

*نحنُ مدينونَ للجيلِ الفلسطينيِّ الذي رفضَ القبولَ "بنصفِ وطنٍ" لأنَّ ذلكَ كانَ يعني شرعيّةً كاملةً للمشروعِ الصهيونيِّ في فلسطينَ، ونحنُ الآنَ متمسّكونَ بحقّنا في العودةِ إلى كلِّ الوطنِ وإقامةِ دولتِنا على جزءٍ منهُ لأنَّ هذا يعني نهايةَ شرعيّةِ دولةِ الاحتلالِ والاستيطانِ كما أرادَ لها مؤسّسوها الصهاينةُ أنْ تكون. 

 

٣٠-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان