العدالةُ مطلبٌ رافقَ الإنسانَ منذُ الأزلِ، وشكّلَ دافعَ التطّورِ البشريَّ ومحرِّكه ومقياسَ الالتزامِ بمنظومةِ الضّوابطِ الأخلاقيّةِ التي توافَقتِ المجتمعاتُ على الاحتكامِ إليها. وقدْ جاءت الشّرائعُ السّماويّةُ كتتويجٍ لتلكَ المنظومةِ بما حملتْهُ من نظرةٍ شموليّةٍ لمفهومِ العدالةِ، حيثُ أصبحتْ غيرَ مقتصِرَةٍ على ضبْطِ العلاقةِ بينَ أفرادِ المجتمعِ الإنسانيِّ، وإنّما تجاوزَتْ ذلكَ لتشملَ العلاقةَ بينَ الإنسانِ والخالقِ، لتجعلَ الالتزامَ بمبدأ العدالةِ أحدَ أهمِّ ما يميّزُ المؤمنَ بتعاليمِ دينهِ ويحميهِ من عقوبةِ الإخلالِ بهذا المبدأ، وهي عقوبةٌ لا تقتصرُ على الحياةِ البشريّةِ بل تتجاوزُها إلى ما بعدَ الموتِ، لتكونَ بذلكَ عدالةً مطلْلَقةً لا يمكنُ الإفلاتُ منْ حتميّتها. وقد وضعت الدّولةُ الحديثةُ مبدأ العدالةِ في صُلبِ تركيبتِها من خلالِ ما سنّتْهُ من قوانينَ لا تتعارضُ بمجملِها معَ مفهومِ العدالةِ التي حملَتْها الدّياناتُ السّماويةُ، لكنّها أكثرُ تفصيلاً بما يتناسبُ مع تطوّرِ المجتمعاتِ في كلِّ جوانبِ الحياةِ.
تمثّلُ العدالةُ الاقتصاديّةُ أحدَ مرتكزاتِ الأنظمةِ الاجتماعيّةِ المعاصِرةِ ونقطةَ الاستقطابِ الرئيسةَ بينَ الأحزابِ والنّظريّاتِ التي تستندُ إليها. وقدْ شكّلَ النظامُ الرأسمالي وما يرتبطُ بهِ من "اقتصادِ السّوقِ" مثالاً للنّزعةِ نحوَ تخلّي الدّولةِ عن دورِها كرقيبٍ يسهرُ على ضبطِ عمليّةِ الإنتاجِ ويحافظُ على عدالةِ توزيعِ ثمارِها بشكلٍ يصونُ مبدأ العدالةِ ويحمي الفئاتِ الأكثرَ ضعفًا والأقلَّ فرصةً للصُمودِ في وجهِ عجلةِ قوانينِ "العرْضِ والطّلَبِ" التي تفتقدُ إلى العاملِ الأخلاقيِّ ولا تأخذُ الإنسانَ في حساباتِها سوى بصفَتِهِ مستَهلِكًا يُراكِمُ أرباحَ رأسِ المال. وقد حاولَ النّظامُ الاشتراكيُّ أن يشكّلَ بديلاً لنظامِ السوقِ المفتوحِ لكنّهُ فشلَ في ذلكَ لأسبابٍ كثيرةٍ لعلَّ أهمّها هو عدمُ قدرتِهِ على الجمْعِ بينَ قيامِ الدولةِ المركزيّةِ بدورِ الرّقيبِ على تطبيقِ العدالةِ الاجتماعيّةِ وبينَ الحفاظِ على الحرّياتِ العامّةِ بصفَتِها حقًّا مطلقًا وشكلاً من أشكالِ العدالةِ لا يقلُّ أهميّةً عن رغيفِ الخُبز، بلْ يسبقُهُ أحيانًا.
لقد استطاعتْ دولٌ كثيرةٌ تجاوزَ عُقدةِ تحكّمِ رأسِ المالِ بالحياةِ الاقتصاديّةِ من جهةٍ وضرورةَ الحفاظِ على دورِ الدّولةِ كراعيةٍ لعدالةِ توزيعِ خيراتِ النموِّ الاقتصاديِّ بما يحفظُ العدالةَ بشقّيها الاجتماعيِّ والاقتصاديِّ من جهةٍ أخرى. ولعلَّ الدّولَ الاسكندنافيّةَ مثالٌ للربطِ بينَ اقتصادِ السّوقِ وحُسنِ توزيعِ نتائجِ التطوّرِ الاقتصاديّ، وقد تجلّى هذا النّمطُ الاقتصاديُّ الجديدُ في سياساتٍ متكاملةٍ للرعايةِ الاجتماعيةِ ومساعدةِ الفئاتِ التي تعيشُ من عرَقِ جبينِها، وفي المقابلِ تفرضُ هذه الدّولُ ضرائبَ دخلٍ عاليةً على الأغنياءِ بما يضمنُ التكافلَ المجتمعيَّ ويعطي دخلاً ثابتًا للدّولةِ يُعينُها على القيامِ بمهامّها الرئيسةِ، ليسَ فقط في محاربةِ الفقْرِ وضمانِ الحياةِ الكريمةِ لكلِّ مواطنيها، وإنّما أيضًا في مجالِ تطويرِ البُنيةِ التّحتيّةِ للدّولةِ وتقديمِ أفضلِ الخَدماتِ للمواطنينَ، علاوةً على ما تحتاجُهُ الدّولةُ من إمكانيّاتٍ للالتزامِ بدورِها في مجالاتِ الصّحةِ والتّعليمِ والضّمانِ الاجتماعيِّ والأمنِ والدّفاعِ وغيرِها.
ليسَ أمامَنا كمُجتمعٍ يسعى لدَحْرِ الاحتلالِ وبناءِ الدّولةِ المستقلّةِ سوى الالتزامِ بمبدأ العدالةِ الاجتماعيّةِ كوسيلةٍ وحيدةٍ لمشاركةِ كلِّ قطاعاتِ شعبِنا في عمليّةِ الصّمودِ والتحرّرِ والبناءِ، لأنّ حجمَ ما نواجهُهُ من صعابٍ يحتاجُ إلى الإنسانِ الذي يشعرُ بأنَّ العدالةَ سيفٌ يحميهِ من بطْشِ الأقوياءِ، فلا مجالَ لتطبيقِ اقتصادِ السّوقِ في مجتمعٍ يقعُ تحتَ الاحتلالِ دونَ أنْ تقومَ الحكومةُ بدورِ الرّقيبِ والسّاهرِ على العدالةِ بكلِّ جوانِبها، فلا حريّةَ للإنسانِ إذا كانَ جائعًا أو غيرَ قادرٍ على توفيرِ الحدِّ الأدنى من مقوماتِ الحياةِ الكريمةِ.
*المشاركةُ في المسيرةِ نحوَ الحريّةِ واجبٌ وطنيٌّ، ولنْ يقومَ بهذا الواجبِ سوى الإنسانُ الحرُّ من كلِّ القيودِ، وأوّلُها تسلُّطُ رأسِ المالِ الجَشِعِ الذي لا يحسبُ للإنسانِ أيَّ حساب، أمّا رأسُ المالِ الوطنيُّ فهو شريكٌ أصيلٌ في معركةِ التّحرّرِ والبناءِ.
٣١-١٠-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها