تشهدُ أثيوبيا مظاهراتٍ مناهضةً للحكومةِ، شأنُها في ذلكَ شأنُ العديدِ من دوَلِ المنطقةِ والعالَمِ، من لبنانَ والعراقِ والجزائرِ، إلى باريسَ وهونغ كونغ وتشيلي، وكأنَّ المظاهراتِ هي الوليدُ الجديدُ لظاهرةِ "العَولَمةِ" التي فتحت الأسواقَ أمامَ رأسِ المالِ وفتحت عيونَ الشّعوبِ على مشاكِلِها المختلفةِ إلى حدِّ التطابُقِ أحيانًا، فالفقرُ والاستغلالُ والمحسوبيَّةُ والفسادُ والقمعُ لمْ تعُدْ حكرًا على أحدٍ، لكنَّ ما يسهّلُ تنامي الوعيِ بوجودِها هي "عَوْلَمَةُ" الاتصالاتِ بما تؤمّنُهُ من سهولةِ نَشْرِ المعلومةِ والحصولِ عليها.
نعرفُ أثيوبيا أو "الحبَشةَ" من تاريخِ البداياتِ الأولى للإسلامِ واستقبالِ ملكِها النّجاشيِّ لمجموعةٍ من المسلمينَ الأوائلِ بعدَ أنْ ضاقوا ذرعًا بظُلمِ قُريشٍ، فأمرَهمُ النبيُّ الكريمُ بالتوجّهِ إلى النّجاشيِّ -ملكِ الحبشةِ النصرانيِّ "الذي لا يُظلَمُ عندَهُ أحدٌ". والنجاشيُّ هو الإنسانُ الوحيدُ غيرُ المُسلِمِ الذي صلّى عليهِ سيّدُنا محمّدٍ صلاةَ الغائبِ حينَ علِمَ بوفاتِهِ، وفي هذا دعوةٌ مفتوحةٌ لاستخدامِ العَقْلِ في التّعامُلِ معَ شركائنا في الإنسانيّةِ والتّخلّصِ من قيودِ الانغلاقِ والتّعصُّب.
فمن هي بلادُ الحبشةِ أو "أثيوبيا" اليومَ؟ وما هو الدّورُ الذي تقومُ بهِ كواحدٍ من جيرانِ العالَمِ العربيِّ المؤثّرينَ والفاعلينَ والطّامحينَ إلى مدِّ نفوذِهم واستغلالِ موقعِهم المتَحَكِّمِ بكثيرٍ من مواردِ العربِ ومياهِهم، والمُمْسكينَ بمفاتيحِ الملاحةِ في بحارهمِ؟
أثيوبيا دولةٌ افريقيّةٌ عظمى، مساحتُها تزيدُ قليلاً عن مليون ومئةِ ألفِ كم مربّع، وعددُ سكّانِها ١١١ مليونًا، وهي بذلكَ ثاني دولةٍ إفريقيّةٍ بعدَ نيجيريا من حيثُ عددِ السّكانِ. وتكادُ أثيوبيا أنْ تكونَ نقطةَ الاستقرارِ الوحيدةَ في القرْنِ الافريقيِّ، فهي دولةٌ لا يُمكنُ مقارنَتُها بجيرانِها كالصّومالِ وارتيريا وجيبوتي، أو بجنوبِ السودانِ وشَمالِهِ، علاوةً على الجارِ المقابلِ على الضّفةِ الشّرقيةِ للبحرِ الأحمرِ وهي اليَمن. لكنَّ حالةَ الاستقرارِ في أثيوبيا ليستْ "تراثًا" وطنيًّا مستمرًّا منذُ عقودٍ، وإنّما هي نتاجُ سياسةٍ يتّبعُها رجلُ اثيوبيا القويُّ، رئيسُ الوزراءِ أبيي أحمد، الذي استلمَ مقاليدَ الحُكمِ في ربيعِ ٢٠١٨ مُنهِيًا بذلكَ حقبةً طويلةً من هيمنةِ الأقليّةِ القوميّةِ التي قادتْها "جبهةُ تحريرِ شعوبِ تيغراي" بعدَ الإطاحةِ بنظامِ مانغستو مريام الماركسي عام ١٩٩١، فقد استمرّت تلكَ الأقليّةُ القوميّةُ (تيغراي) التي تمثّلُ ٦٪ من سكّانِ أثيوبيا بالتّحكّمِ بمقاليدِ البلادِ حتى أطاحت بها الثورةُ الشّعبيةُ التي شاركت فيها القوميّتانِ الأكبرُ: أورومو والأمهريةُ عام ٢٠١٨، وهما قوميّتان تضمّان ٦٠٪ من السكانِ. ورغمَ ادّعاءِ حكومةِ أبيي أحمد أنّها تعتمدُ نهجًا جديدًا على الصّعيدِ الدّاخليِّ يلتزمُ بالمعاييرِ الديمقراطيةِ، فإنَّ الحقيقةَ تقولُ عكسَ ذلكَ، فهناكَ حملاتٌ متواصلةٌ من الاعتقالاتِ السيّاسيّةِ ضدَّ المعارضةِ، وخاصّةً بعدَ مقتلِ رئيسِ أركانِ الجيشِ الأثيوبيِّ ورئيسِ ولايةِ أمهرة في حزيران/ يونيو الماضي، خلالَ ما قالت الحكومةُ أنّها محاولةٌ انقلابيّةٌ.
تمارسُ اثيوبيا سياسةً خارجيّةً طموحةً في منطقةٍ تتقاطعُ فيها طرُقُ الملاحةِ والمصالحُ والصّراعاتُ الكُبرى، فهناكَ صراعٌ بين دولةِ الإماراتِ وتركيا من أجلِ السيطرةِ على مواني البحرِ الأحمرِ، وهناكَ عملٌ صينيٌّ دؤوبٌ دون ضجيجٍ لبسطِ النفوذِ في افريقيا، وهناك التنافسُ الإيرانيُّ-الإسرائيليُّ حيثُ يحاولُ كلا الجانبينِ أن يقفِزَ فوقَ رؤوسِ دولِ المنطقةِ ويفرضَ الهيمنةَ على مداخِلها الاستراتيجيّةِ.
أمامَ هذا كلّهِ نشطت السياسةُ الأثيوبيّةُ على عدّةِ محاورَ، كان أهمَّها هو إنهاءُ الصراعِ المُزمِنِ مع جارَتِها الصّغيرةِ أرتيريا التي كانت خاضعةً للاحتلالِ الأثيوبيِّ حتى انتزعت استقلالَها عام ١٩٩٣، وكانَ الإنجازُ المتمثّلُ بتطبيعِ العلاقاتِ مع أرتيريا مبرّرَ مَنْحِ جائزةِ نوبل للسّلامِ عام ٢٠١٩ لرئيسِ وزراءِ أثيوبيا أبيي أحمد. ولا يقلُّ أهميةً عن ذلكَ ما قامت بهِ الدبلوماسيّةُ الأثيوبيّةُ من جهدٍ تكلّلَ بالنجاحِ في التوفيقِ بينَ المجلسِ العسكريِّ الذي تولّى السّلطةَ بعدَ إسقاطِ حُكْم البشيرِ في السّودانِ وبينَ قوى الثّورةِ والتغييرِ التي قادتْ ثورةَ الشّعبِ السّودانيّ. وقد كانَ نجاحُ الوساطةِ الأثيوبيَّةِ تعبيرًا عن هشاشةِ وعدمِ فاعليّةِ الدّولِ العربيّةِ التي عجزتْ عن القيامِ بدورِ الوسيطِ المؤثّرِ في هذا البلدِ العربيِّ المحوريِّ وتركتْهُ لأثيوبيا مثلما تتركُ العراقَ وسوريا للقاصي والدّاني وتكتفي بدورِ المتفرّجِ العاجزِ عن الفعلِ والتأثيرِ. ورغمَ المحاذيرِ المحيطةِ بإنشاءِ سدِّ النّهضةِ وما يرافقُه من قلقٍ مصريٍّ مشروعٍ حولَ تأثيرِ السّدِّ على منسوبِ المياهِ في نهرِ النّيلِ بكلِّ ما يحملهُ ذلكَ من خطَرٍ على الأمنِ القوميِّ المصريِّ، فإنَّ السياسةَ الأثيوبيّةَ ما زالتْ قادرةً على الجَمْعِ بينَ الاستمرارِ في تنفيذِ المشروعِ من جهةٍ، ومواصلةِ الحوارِ معَ مصرَ ومحاولةِ تبديدِ مخاوفِها من جهةٍ أخرى. وهنا أيضًا تتكشّفُ مظاهرُ العجزِ عن التصدّي للمخاطِرِ التي تهدّدُ أمنَ الوطنِ العربيّ، وهو ما يُنذرُ بتجريدِ الأمّةِ من كلِّ مقوّماتِ الاستقلالِ الاقتصاديِّ والسياسيِّ ويُهدّدُ آفاقَ نموِّها بلْ ووجودَها نفسَهُ.
*أبيي أحمد الحائزُ على جائزةِ نوبل للسلامِ يتصدّى للمتظاهرينَ وتكونُ النّتيجةُ أكثرَ من مئةِ قتيلٍ في أسبوعٍ واحدٍ، لكنَّ هذا لا يثيرُ حفيظةَ الغربِ، لأنَّ السّياسةَ الأثيوبيّةَ جزءٌ من مشروعِ محاصرةِ الوطنِ العربيِّ، وهو مشروعٌ تشاركُ فيه تركيا وإيران ودولةُ الاحتلالِ الاستيطانيّ الإسرائيليّ، وتساهمُ في إنجاحِهِ السّياساتُ المغامِرةُ والعبثيّةُ والتّخريبيّةُ التي أدْمَنتْ عليها بعضُ الأنظمةِ العربيّةِ.
١-١١-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها