في صبيحةِ يومِ الإثنينِ، ٢٩-١٠-١٩٥٦ خرجَ أهلُ كفر قاسم لأداءِ فريضةِ قطفِ ثمارِ الزّيتونِ، خاتمةِ مواسمِ الحصادِ الفلسطينيّةِ. كانوا كما هو حالُهُم كلَّ يومٍ يحثّونَ الخطى بنشاطٍ وفرحٍ وكأنّهم يشاركون في أعراسٍ متواليةٍ تنتشرُ على امتدادِ حقولِ الزيتونِ التي تنتظرُهم لتعطيهم ما اكتنزتْهُ طوالَ عامٍ كاملٍ من خيراتِها، إنّها طقوسٌ توارثَها الفلسطينيّونَ عن أجدادِهم الكنعانيينَ واحتفظتْ بها أشجارُ الزّيتونِ كأسرارٍ لا تبوحُ بها للغرباءِ المُتسَلّلينَ تحتَ جنحِ الظلامِ والقادمينَ من عتمةِ أساطيرِ التّاريخ. لا شيءَ يمكنُ أنْ يجعلَ الفلسطينيَّ قابلاً للتّخلّي عن عشقِهِ للأرضِ، فهو لا يكترثُ عادةً بقعقعةِ سلاحِ الغزاةِ، لأنّهُ مواظبٌ على صَوْنِ علاقتِهِ الحميمةِ بالأرضِ مثلما يواظبُ الغزاةُ على تغييرِ أسمائهم قبلَ أنْ يطرُدَهُم التاريخُ من ذاكرةِ فلسطين.

 

في نفسِ اليومِ كانَ الغزاةُ الجدُدُ الذين اجتاحوا فلسطينَ للتوِّ يتآمرونَ مع غزاةٍ آخرينَ يُلملِمونَ بقايا إمبراطوريّاتِهم المنهارةِ ويحاولونَ عبثًا ترميمَها بتثبيتِ سيطرتِهم على قناةِ السُّويسِ، فقد أدركت بريطانيا وفرنسا أنَّ الزعيمَ العربيَّ جمال عبد الناصر بقرارِهِ تأميمَ القناةِ قد دقَّ المسمارَ الأخيرَ في نعشِ الإمبراطوريتين الاستعماريتَينِ، وهو ما أكمَلهُ بعد سنواتٍ قليلةٍ عبرَ دعمهِ للثّورةِ المُظفَّرةِ في الجزائر، لتنتهي بذلكَ حقبةُ الاستعمارِ البريطانيِّ-الفرنسيِّ الأسود. لقد كان العدوانُ الثلاثيُّ ضدَّ مصرَ تعبيرًا صارخًا عن الدّورِ المنوطِ بالدّولةِ الصهيونيّةِ الوليدةِ، وهو دورٌ لا يمتُّ بصِلةٍ إلى اليهودِ وتاريخِهم المزعومِ في فلسطينَ، لكنّهُ دورٌ تخريبيٌّ أنيطَ بهذا الكيانَ ليكونَ رأسَ حربةٍ كلّما شعرَ الغرْبُ الاستعماريُّ بأنَّ مصالحَهُ تتعرّضُ للتهديد.

 

كانَ أحدُ الأهدافِ الإسرائيليّةِ من المشاركةِ في العدوانِ الثلاثيِّ ضدَّ مصرَ هو استغلالُ غبارِ الحربِ كساترٍ لتنفيذِ عمليّةِ تطهيرٍ عرقيٍّ تشملُ أبناءَ شعبِنا في منطقةِ المُثّلثِ، وضمنَ التّحضيراتِ لتلكَ العمليّةِ تمَّ إصدارُ قرارٍ بزيادةِ ساعاتِ منعِ التجوّلِ وأن يتمَّ تطبيقُهُ منذ السّاعةِ الخامسةِ مساءً بدلاً من الساعةِ التاسعةِ خارجَ القرى والعاشرةِ داخلَها كما كانَ معمولاً بهِ حتّى الآن. وقد قامَ قائدُ جيشِ الاحتلالِ في المنطقةِ بإبلاغِ مختارِ كفر قاسم بقرارِ حظرِ التجوّلِ قبل موعدِ سريانِهِ بنصفِ ساعةٍ فقط، علمًا أنّ أكثر من خمسمئةٍ من الفلاحينَ كانوا لا يزالونَ في حقولِهم ولم يكنْ بالإمكانِ إبلاغُهم بالقرارِ وعودتُهم إلى بيوتهم خلالَ نصفِ ساعةٍ. وعندما سألَ شموئيل مالينكي، قائدُ وحدةِ حرسِ الحدودِ التي كُلّفتْ بارتكابِ المجزرةِ، قائدَ لواءِ الجيشِ في المنطقةِ، المُقدّمَ يتسار شدمي: كيفَ نتعاملُ مع منْ لا عِلمَ لهم بالقرارِ؟ كان ردُّ شدمي، وباللغة العربية: الله يرحمهم! 

 

في السّاعةِ الخامسةِ بدأ حمّامُ الدّمِ، وباشرَ الجنودُ الصّهاينةُ بعمليّاتِ إعدامٍ جماعيٍّ للعائدينَ من حقولِهم عندَ مداخلِ البلدةِ، كان القَتْلُ بدمٍ باردٍ وتنفيذًا لأوامر عسكريّةٍ مباشرةٍ وصريحةٍ، وبغطاءٍ سياسيٍّ من الحكومةِ برئاسةِ بن غوريون. ورغم كلِّ محاولاتِ التعتيمِ الإسرائيليّةِ فإنَّ المجزرةَ قد تمكّنت من شقِّ طريقِها إلى الرّأي العامِّ، وتكشّفَ هولُها عندما تيقّنَ العالمُ أنَّ جيشَ "واحةِ الديمقراطيةِ" قامَ بقتلِ ٤٩ مواطنًا فلسطينيًّا ضمنَ عمليةٍ تمَّ التخطيطُ لها وتنفيذُها والتّستّرُ عليها بقرارٍ رسميِّ، كشفَت عنهُ وأثبتَتْهِ المحاكماتُ الصّوريةُ للمجرمينَ القتَلةِ ومهزلةُ الأحكامِ التي صدرتْ بحقّهم، وما تبعَ ذلكَ منْ إصرارٍ على عدمِ تقديمِ الإعتذارِ إلى الضحايا وذويهم وإلى بلدةِ كفر قاسم التي كانت مسرحًا لتلكَ المجزرة. لقدّ تمَّ إعدامُ ٤٩ فلسطينيًّا من سكانِ البلدةِ، منهم ٢٣ طفلاً، وكانَ أكبرَ الضّحايا عجوزٌ في التّسعينَ من عمرِهِ وأصغرَهُم جَنينٌ في بطنِ أمّه.

 

مجزرةُ كفر قاسم التي جرى تنفيذُها في ظلِّ المشاركةِ الإسرائيليّةِ في العدوانِ الثّلاثيِّ ضدَّ مصرَ، هي اختزالٌ لطبيعةِ المشروعِ الصّهيونيِّ في فلسطين وفي الوطنِ العربيِّ، فهو مشروعٌ يهدفُ إلى احتلالِ فلسطينَ وترحيلِ أهلِها بعدَ ترويعِهم بارتكابِ المجازرِ ضدّهم، وهو في نفسِ الوقتِ رأسُ حربةِ الغربِ الاستعماريِّ الهادفِ إلى السيطرةِ على مقدّراتِ الأمّةِ ونهبِ خيراتِها وتكريسِ الانقسامِ بينَ دُولِها وشعوبِها، ولأنّها كذلكَ، نقولُ في ذكراها الثالثةِ والسّتينَ: لنْ ننسى! ونردّدُ خلفَ شاعرِ فلسطينَ سميحِ القاسم:

وأنا يا كفرَ قاسِمْ

أنا لا أنشِدُ للْجُرْحِ ولكنْ

لِيَدٍ ظّلّتْ تُقاوِمْ

 

٢٩-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان