الوقايةُ هي تحصينُ الذّاتِ ضدَّ كلِّ ما يهدِّدُ الفردَ أو المجتمعَ من أخطارٍ وأمراضٍ، وهي التعبيرُ العمليُّ عن الإيمانِ باللهِ، إذ إنّها اختزالٌ حقيقيٌّ للقولِ المأثورِ: اعقِلْ وتوكّلْ، فليس المؤمنُ مَن يستسلمُ للصُّدفةِ أو الحظِّ وإنّما هو من يُعدُّ لكلِّ الاحتمالاتِ ويجهزُّ نفسَهُ لأسوئها، ليس من بابِ التّشاؤمِ وإنّما من منطلَقِ القناعةِ بأنَّ واجبَهُ يقتضي الاستعدادَ لمواجهةِ الخطرِ وبعدَ ذلكَ يتركُ أمرَهُ لمشيئةِ الله. ليس هناكَ استثناءٌ، فكلُّ جانبِ من جوانبِ الحياةِ تنطبقُ عليهِ هذه القاعدةُ الذهبيّةُ التي تشكّلُ خلاصةَ التجربةِ الإنسانيّةِ عبر التاريخِ. ينطبقُ هذا على توفيرِ مستلزماتِ الصّمودِ ضدّ الأعداءِ، مثلما ينطبقُ على اتخاذِ الاحتياطاتِ اللازمةِ ضدَّ الظّواهرِ الطبيعيّةِ وضدَّ الأمراضِ والأوبئةِ المختلفة. هكذا نفهمُ مسألةَ التوكّلِ على الله وإيمانَنا بأنّهُ "لنْ يصيبَنا إلّا ما كتبَ اللهُ لنا"، لأنَّ توكّلنا على الله هو الذي يدفعُنا على سبيلِ المثالِ إلى تركيبِ موانعِ الصّواعق فوق بيوتِنا، ثمَّ التضرّعِ إلى اللهِ عندَ اشتداد الرّياحِ ونزولِ الأمطارِ وما يرافقُها من رعدٍ وبرقٍ والدّعاءِ بأنْ يلطُفَ بنا.
غنيٌّ عن القولِ إنَّ الوقايةَ ليستْ خيارًا واحدًا ضمن خياراتٍ متعدّدةٍ يمتلكُ الإنسانُ تَرَفَ المُفاضَلةِ بينَها، وهي بحُكمِ نجاعتِها تتجاوزُ الاختيارَ لتصبحَ في مصافِّ الواجباتِ. فالوقايةُ هي خيارُ الفقراءِ والضّعفاءِ قبلَ غيرِهم، لأنّها ببساطةٍ لا تحتاجُ سوى إلى جزءٍ يسيرٍ من مستلزماتِ العلاجِ في حالةِ وقوعِ المرَضِ. والمرضُ هنا قد يأخذُ شكلَ غزوٍ أجنبيٍّ أو أسرابِ جرادٍ أو مرضٍ فتّاكٍ أو سيولٍ جارفةٍ أو نقصٍ في الثّمراتِ، لا فرْق، لأنَّ مواجهةَ هذهِ الحالاتِ الطارئةِ ستكونُ بحاجةٍ إلى أضعافِ ما نحتاجُهُ لتحصينِ أنفسِنا ضدّها.
يمثّلُ قطاعُ التّأمينِ بكلِّ أشكالِهِ واحدةً من أهمِّ وسائلِ الوقايةِ والاستعدادِ لما قد تأتي بهِ الأيّامُ، لذلكَ لا بدَّ أن يكونَ هذا القطاعُ خاضعًا للرّقابةِ الدّائمةِ بما يضمنُ قيامَهُ بواجباتِهِ، فهو أحدُ أعمدةِ الاقتصادِ في كافّةِ دولِ العالَمِ، وهو أحدُ مرتكزاتِ الثّقةِ في العلاقةِ بين المواطِنِ والنظامِ السياسيِّ والاقتصاديِّ، إضافةً إلى كونِهِ مساهمًا رئيسًا في نموِّ الاقتصادِ واستثمارِ رأسِ المالِ الوطنيِّ في ما ينفعُ النّاسَ. وهذا الدّورُ الذي يقومُ به قطاعُ التأمينِ يستدعي أن تقومَ الدّولةُ (الحكومةُ) بالمشاركةِ في إنجازهِ وخاصّةً في الجوانبِ المتعلقةِ بالمستقبلِ أو في حالاتِ المرضِ أو العجزِ عن العمل.
يبقى المجالُ الأكثرُ قربًا وتطابقًا مع مقولةِ "درهمُ وقايةٍ خيرٌ من قنطارِ علاجٍ" هو مجالُ الوقايةِ من الأمراضِ باستخدامِ اللقاحاتِ المتوفّرةِ والتي تضمنُ الآنَ حمايةً من معظمِ الأمراضِ المُعديةِ والسّاريةِ المعروفةِ. ويجب التأكيدُ هنا أيضًا أن تعميمَ التلقيحِ المجانيِّ هو الخيارُ الأوّلُّ والأقلُّ كلفةً في الدّولِ ذات الإمكانيّاتِ المحدودةِ والتي لا تتوفّرُ فيها إمكانيّاتُ ووسائلُ العلاجِ لكثيرٍ من الأمراضِ. لقد استطاعت برامجُ التّلقيحِ الإجباريِّ والمجانيِّ أن تُجنّبَ البشريةَ مخاطرَ الأوبئةِ الفتّاكةِ، فقد تمّ القضاءُ نهائيًّا على مرضِ الجدري، وتمَّ الحدُّ بشكلٍ جذريٍ من خطر شللِ الأطفالِ والتهابِ الكبدِ الوبائيِّ وعشرات الأمراضِ الأخرى. ويشكّلُ الاهتمامُ بتطبيقِ برامجِ التلقيحِ بشكلٍ شاملٍ ومنتظمٍ فرصةً نادرةً للتغلّبِ على الكثيرِ من العقباتِ التي تعترضُ الرّعايةَ الصحيّةَ في فلسطينَ، وخاصّةً مسألةَ التحويلاتِ الطبيّةِ المُكلِفةِ، إضافةً إلى إنقاذِ المواطنينِ من ذوي الدّخلِ المحدودِ من الوقوعِ في خطرِ العلاجِ المُكلفِ في المستشفياتِ الخاصّةِ. هذا بالطبعِ بالإضافةِ إلى العديدِ من وسائلِ الوقايةِ ضدَّ أمراضِ العصرِ كالسّمنةِ والسّكري وارتفاع ضغطِ الدمِ وغيرها من الأمراضِ التي تستنزفُ صحّةَ الإنسانِ وجَيبَهُ وتثقلُ كاهلَ القطاعِ الصحيّ والموازنةَ العامّة.
*المؤمنُ القويُّ خيرٌ من المؤمنِ الضّعيفِ، والقوّةُ بحاجةٍ إلى توفيرِ كلّ مستلزماتِ المقاومةِ ضدَّ الأمراضِ، ولا فرق بينَ مرضِ الاحتلالِ والاستيطانِ وبين مرضِ الجدري أو الحصبة.. كلّها أوبئةٌ بحاجةٍ إلى أنْ نكونَ دومًا أقوياءَ في وجهِها، وأنْ نُعدَّ لها ما استطعنا من قوّةٍ ورباطِ الخَيْلِ... ومن التلقيحِ أيضًا.
٢٨-١٠-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها