شكّلَ الظّهورُ المفاجئُ لتنظيمِ داعش وسيطرتُهُ بطريقةٍ مسرحيةٍ على مساحاتٍ شاسعةٍ من أرضِ العراقِ وسوريا ذروةَ عمليةِ التدميرِ الذي تعرّضَ لهُ هذان البَلَدان في سياقِ تنفيذِ مشروعِ "الفوضى الخلّاقةِ" الذي بدأ مع الغزو الأمريكيِّ للعراقِ عام ٢٠٠٣ ولم تكتَمِلْ فصولُهُ بعدُ. وبعيداً عن تفسيرِ مجرياتِ التّاريخِ بمنطقِ "عقليةِ المؤامرةِ" الذي يتحكّمُ بتفكيرِ الضعفاءِ والعجَزَةِ، لا بدَّ من التأكيدِ على النتائجِ الكارثيّةِ للسياسةِ الأمريكيّةِ التي تمَّ تطبيقُها منذ بدايةِ احتلالِ العراقِ والتي رسّختْ الطائفيةَ والمذهبيّةَ كأساسٍ لنظامِ الحُكْمِ، ثمَّ أتْبَعتْ ذلكَ باستخدامِ نفسِ الأدواتِ والمعاييرِ للفَرزِ بين قوى الحربِ الأهليّةِ في سوريا، ناهيكَ عن تأجيجِ الخلافاتِ العربيّةِ-الإيرانيّةِ وتسخيرِها لخدمةِ مشروعِ التناحُرِ بينَ مكوّناتِ الأمّةِ ومعَ جيرانِها بما يضمنُ استمرارَ الحاجةِ إلى التواجُدِ والحمايةِ الأمريكيّةِ ويرسّخُ وجودَ دولةِ الاستيطانِ الإسرائيليّةِ ويجعلُ منها واقعاً يجبُ القبولُ به والتّعاملُ معه. وغنيٌّ عن القولِ أنَّ السياسةَ الأمريكيّةَ وحدَها لا تكفي لإحداثِ كلِّ ما نشاهدُهُ من خرابٍ وتدميرٍ يطالُ كلَّ مكوّناتِ المنطقةِ، ولم يكنْ لها أنْ تستمرَّ دونَ مشاركةِ دولٍ وحكوماتٍ وقوى متعدّدةٍ عربيّةٍ وإقليميّةٍ، مستغلّةً حالةَ الفوضى والاستقطابَ الطائفيَّ لبسطِ نفوذِها وتحقيقِ مصالِحها التي لم يكنْ بإمكانِها تحقيقُها إلّا في ظلِّ حالةِ الفوضى التي ترعاها وتغذّيها أمريكا وحلفاؤها.
لم يكنْ تنظيمُ داعش الوليدَ الوحيدَ للفتنةِ الطائفيّةِ، ويكفي إلقاءُ نظرةٍ على خارطةِ الصّراعاتِ في العراقِ وسوريا واليمنِ ولبنانَ وغيرِها لنُدرِكَ أنَّ المعيارَ الطائفيَّ أو المذهبيَّ يشكّلُ أساساً لتحديدِ هويّةِ أطرافِ تلكَ الصّراعاتِ. ومن السّذاجةِ أن يظنَّ أحدٌ أنَّ المخابراتِ الأمريكيّةَ أو غيرَها هي التي تقفُ بشكلٍ مباشرٍ وراءَ تشكيلِ أو تعزيزِ قوّةِ ونفوذِ هذه الأطرافِ المتحاربةِ دونَ هدفٍ يستحقُّ كلَّ هذا العُنفَ والكراهيّةَ، وهذا ينطبقُ على تنظيمِ داعش والحشدِ الشّعبيِّ وغيرِهما من المتمترسينَ خلفَ شعاراتِ الطائفيّةِ والمذهبيّةِ. لكنَّ من السّذاجةِ أيضاً أن يتجاهلَ أحدٌ أهميّةَ الدّورِ الذي قامت وتقومُ به أمريكا لتوفير التّربةِ الخصبةِ لظهورِ هذهِ القوى، لأنَّ وجودَها يخدمُ الهدفَ الاستراتيجيَّ الأمريكيَّ بخلقِ آليّاتٍ للصّراعاتِ الدّاخليةِ قابلةٍ للاستمرارِ لسنواتٍ طويلةٍ قادمة. هكذا نفهمُ دورَ تنظيمِ داعش، فهو إحدى الثّمارِ الطبيعيّةِ للسياسةِ الأمريكيّةِ، ولأنّهُ كذلكَ لا بدَّ أن تتلاقى مصالحُهُ مع المصالحِ الأمريكيّةِ أو تتقاطعَ معها في محطّاتٍ عديدةٍ. وهذا يقودُنا إلى نتيجةٍ بديهيّةٍ أخرى، وهي أنَّ حجمَ ومستوى العداءِ بين السياسةِ الأمريكيّةِ وتنظيمِ داعش أو غيرِهِ من محترفي العداءِ لأمريكا بالكلامِ، يعتمدُ بالدّرجةِ الأولى على تقييمِ أمريكا لمدى ما يقدّمونهَ في لحظةٍ محدّدةٍ للمشروعِ الأمريكيِّ في المنطقةِ، فلا يوجدُ أيُّ صراعٍ مطلَقٍ بين القوى التي نمتْ أو ترعرعتْ نتيجةً للحالةِ الطائفيّةِ وبينَ أمريكا التي وفّرتْ أرضيةً ملائمةً لتلك الحالة. هكذا تعاملت أمريكا مع تنظيمِ القاعدةِ في السّابقِ، وهكذا تتعاملُ مع داعش والنّصرةِ وعصائبِ أهلِ الحقِّ ومع النّفوذِ الإيرانيِّ في المنطقةِ العربيّةِ، فكلُّ ما يخدمُ استمرارَ الفرزِ الطائفيِّ هو أمرٌ يمكنُ للسياسةِ الأمريكيّةِ أن تتعايشَ معهُ وتتقبّلهُ وتتجنّبَ الصدامَ معهُ ما دامَ بعيداً عن المسِّ المباشرِ بالمصالحِ الأمريكيّة.
ليست أمريكا وسياساتُها قدَراً محتوماً ينفّذُ ما يشاءُ، لكنَّ أمريكا ما زالت قادرةً على تكييفِ سياستِها مع ما يفرزُهُ الواقعُ من مستجدّاتٍ، ولعلَّ أخطرَ ما يهدّدُ المشروعَ الأمريكيَّ على المدى الطّويلِ هو الحراكُ الشعبيُّ الرّافضُ للتقسيمِ الطائفيّ الذي تحاولُ أمريكا تكريسَهُ وتكبيلَ إرادةِ الشعوبِ بقيودِهِ. وقد أثبتتْ التّجربةُ أنَّ الفرزَ الطائفيَّ هو العائقُ الرئيسُ أمامَ دولِ وشعوبِ المنطقةِ في مسيرَتِها نحو الاستقرارِ والعدالةِ والتخلّصِ من الفسادِ ونهبِ وتبديدِ خيراتِ الأمّةِ، من هنا يجبُ التعاملُ مع الحراكِ في العراقِ ولبنانَ بصفتِهِ نقيضَ السياسةِ الأمريكيّةِ وعدوَّ إفرازاتِها الطائفيّة. وعلينا ألا نستغربَ إذا لجأت أمريكا إلى الصدامِ مع بعضِ تلكَ الإفرازاتِ كي تتداركَ الخسائرَ التي ستلحقُ بمشروعها التخريبيِّ في حالِ نجاحِ الحراكِ المناهضِ للطائفيّةِ والفسادِ وامتدادِهِ إلى دُولٍ أخرى.
*كان تنظيمُ داعش إحدى أهمِّ إفرازاتِ حالةِ الاحتقانِ الطّائفيِّ التي شكّلتْ محورَ السياسةِ الأمريكيةِ وعنوانَها الأوّلَ، ولا غرابةَ إذا قامت أمريكا بطيِّ صفحةِ هذا التنظيمِ إذا كان ذلكَ يخدمُ مصالِحها ويقلّلُ من الخسائرِ التي يمكنُ أن تلحقَ بها نتيجةً للحراكِ الشعبيِّ الذي تجاوزَ حدودَ الطائفيّةِ وجعلَ من الوطنِ والمواطَنَةِ همّهُ الأوّل.
٢٧-١٠-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها