تحظر تربيتُنا القرويةُ علينا الحديثَ عن الطّعام، وكأنّ الحديثَ عنه دليل على الشّراهة أو الحرمان، فلا يصحّ أنّ نقول للآخرين ما تناولنا في وجبتنا الأخيرة، أو ما هي أكلتنا المفضّلة، ولكنّني في هذا الصّباح قرّرتُ أن أخرج عن المألوف وأن أبتعد عن رائحة العنصريّة التي نعاني منها في وطننا الحبيب الصّغير الجميل، وعن أخبار رأس الهرم الإسرائيليّ الذي اكتشف "بعدما جفّ لسانه وريقه" وهو يبدع في التّحريض العنصريّ علينا أنّنا مواطنون وعندنا خيرة الأطبّاء والصّيادلة والفنّانين والأدباء والمهندسين والعلماء... (اللهم استر!).
اعتقد أنّ وجبة الفطور من أكثر الوجبات التي ذكرتها وفضّلتها حضاراتُ الشّعوب فقد قال الألمان: "افطر ملكًا، وتغدَّ أميرًا، وتعشَّ فقيرًا". أمّا العرب الذين اختاروا الفول المدمّس طعامًا لهم فقالوا: "الفول فطور الأمير، وغداء الفقير، وعشاء الحمير". وفي الأيام الغابرة عندما كنت طفلًا كنت أسمع والدي يقول لأمّي: "هاتي كَسرة السُّفرَة!" أو يقول أحيانًا "قدّم أبو فلان لضيوفه كَسرة السُّفرة قبل أن يغادروا بيته" أي وجبة الفطور. والسُّفرة هي طعام المسافر أو ما يبسط عليه الأكل أمّا الكَسر فهو النّزر القليل، فكَسرة السُّفرة تعني القليل من الطّعام أو الأكل الخفيف وأمّا كِسرة السُّفرة فمعناها قطعة صغيرة من الطّعام.
لم أستغرب هذه العلاقة الجذريّة بين "السُّفرة" التي معناها الطّعام وبين سَفّرَ الكتابَ أي كتبه، والسِّفر هو الكتاب والسّافر هو الكاتب والجمع سَفَرَة فكلاهما غذاء للجسم وللعقل.
أشعر بمتعة وأنا أتناول مع شريكة حياتي فطوري الذي أعددته بعد عودتي من مشوار الصّباح في مسار المشي بين الأشجار الخضراء متعددّة النّوار، وبين الأزهار البيضاء والحمراء والصّفراء، بين الجوريّ والقرنفل، ومع سقسقة العصافير والطّيور.
وأظنّ أنّ كلمة "أعددته" لا تفي بالعلاقة الودودة بيني وبين الخسّ والنّعنع والبقدونس والبصل الأخضر والبندورة والخيار والفلفل والفرفحينة والزّيتون على أنواعه وزيته الصّافي واللبنة والجبن... وطبعًا والزّعتر.
أحب العسل ولا أذوقه "ولو على رأس لساني" وأحبّ البيض ولكنّي أقلل منه.
أوصاني أخي وصديقي أبو سليم محمود: وأنت تعدّ فطورك فكّر بغيرك، لا تنسَ قوت الحمام! وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك لا تنسَ شعب الخيام! وأنت تفكّر بالآخرين البعيدين، فكّر بنفسك، قُل: ليتني شمعة في الظّلام!
أتمنى لكم فطورًا هنيئًا مريئًا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها