كنتُ أعتقدُ أنَّني أنا الحائر في كيفية فهم ما آل إليه اليسار الفلسطيني، ولكن بعد التدقيق ومراجعة التاريخ وتحليل الحاضر اكتشف أنَّ اليسار هو الحائر بنفسه طوال الوقت ولستُ أنا. إن كنّا نعتبر أنّ اليساري هو حكمًا ماركسي أو ماركسي لينيني، فإنّ نضاله الاجتماعي الطبقي هو الأساس إلى جانب الفكري والتثقيفي. من دون شك انه في الحالة الفلسطينية المسألة أكثر تعقيدًا فالمهمة الرئيسة للجميع يسار وغير يسار هي مهمة التحرر الوطني بكل ما فيها من تفاصيل وتحقيق الاستقلال الوطني هو الهدف المباشر.
المحيّر بيسارنا أنّه لا يمتلك أي برنامج اجتماعي ولا هو بالفعل يناضل من أجل طبقة العمال والفلاحين. قد يكون للبعض منهم برنامج مكتوب، أو كلام نظري جميل، ولكن لا نرى تطبيقا عمليًّا أو جهدًا يبذُل من أي نوع للنهوض بالمجتمع وتحريره من الأفكار الرجعية المحافظة إلى درجة يمكن التساؤل معها هل هذا اليسار يسار بالفعل، وهل هم ماركسيون ويفهمون الماركسية بالفعل؟
في الواقع الراهن هم يختبئون وراء مقولة (طرفي الانقسام) فتح وحماس ويضعون أنفسهم بنفس المسافة الفكرية والوطنية من الطرفين كما وكأنه ليس هناك من فارق بين "فتح" و"حماس" بالنسبة لهم، بين تنظيم وطني لا امتداد له سوى الوطنية الفلسطينية والمقصود "فتح"، وبين تنظيم يقول جهارًا أنّه جزء من التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، أي أنّه حركة من حركات الإسلام السياسي التي تعتبر الماركسي ملحدا كافرا والمقصود هنا "حماس".
حيرة اليسار ليست بنت اللحظة بل حيرة صاحبت هذه الأحزاب والتنظيمات منذ تأسيسها. الحيرة الأساسية كانت بين ما هو أُمَمي وما هو قومي وما هو وطني. فالجبهة الشعبية على سبيل المثال عندما قرَّرت أن تتحوَّل من حركة قوميين عرب إلى حركة أو حزب ماركسي لينيني في نهاية عام 1969 هي عمليًّا لم تصبح ماركسية ولم تعد قومية هي تركيبة فكرية آيديولوجية معقّدة، وبقيت حتى اللحظة هي حائرة بنفسها فعليًا ويعود ويطغى عليها ما هو قومي.
الجبهة الديموقراطية كانت أوفر حظًّا بما يتعلَّق بالفكر الماركسي فهي بالفعل قطعت علاقتها الفكرية بحركة القوميين العرب، ولكنَّها مع ذلك لم تجد لنفسها مكانًا واضحًا بين الماركسيين فهي كيف تصنّف نفسها ماركسيًّا؟
أمَّا الحزب الشيوعي الفلسطيني فقد كان وضعه ملتبسًا وحائرًا وطنيًّا منذ تأسيسه في مطلع عشرينيات القرن العشرين على يد يهود هاجروا إلى فلسطين وكانوا ماركسيين ومعادين للصهيونية من دون شك. نتيجة هذه الضبابية بين ما هو وطني وما هو أُممي، وضبابية أعمق بما يتعلَّق بالموقف حق الحركة الوطنية الفلسطينية في تلك المرحلة انشق الحزب في مطلع الأربعينات وخرج معظم الفلسطينيين العرب منه وأسّسوا عصبة التحرر الوطني والتي دمجت بشكل أفضل بين ما هو أُممي وما هو وطني وتنفُّس الشيوعيون الفلسطينيون من خلالها الصعداء.
مأزق عصبة التحرّر جاء عندما سارع الاتحاد السوفياتي بالاعتراف بإسرائيل فور الإعلان عن نفسها دولة، واعترافه بقرار التقسيم عام 1947وتبني العصبة لهذا الموقف. وبالرغم من رفض الشيوعيين لمبدأ ضم الضفة للأردن في مطلع الخمسينات، ودفعوا ثمنًا باهظًا لهذا الموقف، فسرعان ما اندمجوا مع الشيوعيين في الأردن، وشكّلوا الحزب الشيوعي الأردني، هذا الأمر كان يمكن أن يبرَّر لو لم يتأخر الشيوعيون الفلسطينيون بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وبعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في الستينات بعد أن أصبحت هذه المنظمة الممثل الشرعي والوحيد الوحيد للشعب الفلسطيني عام 1947، لو لم يتأخروا حتى عام 1981 ليعلنوا عن نفسهم الحزب الشيوعي الفلسطيني ويصبح جزءًا من منظمة التحرير كحزب فلسطيني.
المشكلة الأخرى هي أنَّ اليسار لم يقم وزنًا لمسألة القرار الوطني الفلسطيني المستقل، والتي كانت عنصرًا مركزيًا لدى حركة "فتح" وحركات التحرر الوطني العالمي كافّةً، فكان هذا اليسار يعمل باستمرار تحت مظلة أو ضمن تحالفات تقيد من مواقفه. عدم فهم اليسار لمركزية القرار الوطني المستقل قادته إلى أن يخطئ التقدير في الموقف الوطني، وأكثر الأمثلة وضوحًا على ذلك بعد حرب عام 1982، حيث تحالف هذا اليسار مع النظام السوري، ولم يدرك خطأه إلّا عام 1987 وعاد إلى صيغة الوحدة الوطنية. وهذه الظاهرة لا تزال موجودة حتى اليوم، حيث تحوَّل الكثير من قيادات هذا اليسار إلى مسؤولين في المنظمات غير الحكومية الـ NGOأو منخرطين بتحالفات دولية وإقليمية يحصلون منها على تمويل يؤثر على مواقفهم السياسية.
المشكلة الأخرى، والتي تؤكد حيرة اليسار قلّة فعاليته وطنيًا، فهو لا يعبّر عن نفسه اجتماعيًا وفكريًا في الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، لذلك فهو كثيرًا ما يلجأ للمزايدات والشعبوية، أو الرهان على الفرج الذي قد يأتي من الخارج.
وبالرغم من ذلك، ولكي لا أُفهَم بطريقة خاطئة فهؤلاء ناس وطنيون وبدون شك مناضلون. حرية واستقلال وطنهم وشعبهم قضيتهم، لكنَّهم حائرون بأي موقع سياسي وفكري يكونون.