غيَّب الموت رجل بقامة وطن وشعب وأمة. رجل عركته السياسة ودروبها، وأفنى عمره يقارع دفاعا عن قناعاته، وحرية واستقلال وسيادة وتطور دولته وشعبه. رحل الرئيس الباجي قايد السبسي، عن عمر يناهز الـ93 عاما بعد وعكة صحية ألمت به مساء الأربعاء الماضي الموافق 24 تموز/ يوليو 2019، ولم تمهله سوى سويعات قليلة، تقل عن الـ18 ساعة، لأن ملك الموت تجلى في العاشرة و25 دقيقة من صباح يوم الخميس الـ25 من الشهر، ولم يسمح له على أقل تقدير الإشراف على الانتخابات البرلمانية القادمة المقررة في تشرين الثاني/ نوفمبر (2019)، وتسليم الراية لمن يخلفه.
مع ذلك كان الرئيس الباجي قايد السبسي، الذي مر بوعكة صحية مطلع الشهر الحالي، قد تمكن في أعقاب تعافيه منها، من إصدار مرسوم رئاسي بإجراء الانتخابات البرلمانية قبل نهاية العام الحالي، وكان ذلك إنجازا، واستحقاقا دستوريا لتونس وقواها السياسية. ويمكن الجزم أن الرئيس التونسي كان شخصية متميزة بعطائها، وديمقراطيتها، وتمثلها العميق لقيم ومبادئ المجتمع المدني التعددي، واندفاعها الشجاع والمسؤول في الدفاع عن مصالح وحقوق الشعب العربي التونسي. كان مؤمنا بقيم العدالة الاجتماعية، ومدافعا أمينا وصلبا عن القانون والنظام والحرية والمساواة بين المرأة والرجل، وهو الذي تبنى مساواة المرأة في الميراث أسوة بشقيقها الرجل، ورفض كل أشكال التمييز، أو الإقصاء بما في ذلك مع خصومه من كل المستويات.
كان السبسي الامتداد الطبيعي، والخليفة الصادق والأمين لميراث الزعيم التونسي الأول بعد الاستقلال، الحبيب بورقيبة، الأب الروحي والعملي للمجتمع المدني التونسي، ورائد من رواده، وصانعيه في الوطن العربي والعالم الثالث، وباني ركائزه في تونس الخضراء عبر الاستثمار في الإنسان عموما والمرأة خصوصا، ومنحها حقوقا مدنية متقدمة، كما استثمر في التعليم والثقافة والصحة والعدالة الاجتماعية.
وحرص الراحل الكبير والحكيم على تكريس الإيجابيات، وتعميقها، وترسيخ جذورها في المجتمع مع عودته مطلع العام 2011 بعد الإطاحة بالرئيس السابق زين العابدين بن علي من خلال المواقع التي تولاها، وآخرها رئاسة الجمهورية في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2014، وهو الرئيس الرابع لتونس، وانتخب ديمقراطيا، ولم يأت للرئاسة على ظهر دبابة، ولا من خلال انقلاب ابيض أو أسود.
كما أنّ للرجل الشجاع مواقف قومية متميزة، وخاصة تجاه قضية الشعب الفلسطيني، حيث تميزت مواقفه دوما بالدعم غير المحدود، وآخرها تمثل في القمة العربية، التي عقدت أواخر آذار/ مارس الماضي 2019، حيث تبنى بشجاعة وحزم كل المواقف التي طرحتها القيادة الفلسطينية، فضلا عن انه ارتبط بعلاقات أخوية صادقة مع الرئيس محمود عباس، وكان كلاهما أشبه بالتوأم الحكيم بين الحكام العرب. وأيضًا كان الرئيس الباجي السبسي داعمًا ومساندًا لكل القضايا القومية، وخاصة تأسيس المؤتمر الشعبي العربي، الذي يمثل قطاعا مهما من القوى الوطنية والقومية العربية، وباتت، وما زالت تونس بفضل دعم وإسناد الرئيس الراحل السند القوي للمؤتمر.
وأهمية مكانة الزعيم التونسي المبدع والخلاق، انه رفض البقاء في دائرة الظل بعد ثورة الشعب التونسي نهاية 2010 ومطلع 2011، بل حزم أمره، وشد رحاله إلى ساحة الميدان والشعب، رغم عمره المديد، الذي قارب من نهاية النصف الأول من الثمانينيات، ونزل كفارس شجاع إلى الحلبة السياسية، وفرض نفسه، كما هي عادته، رقما نوعيا ومميزا، واحتل العديد من المواقع، وشكل حزب أو ائتلاف "نداء تونس"، الذي حشد في صفوفه العديد من القوى اليسارية والوطنية والديمقراطية اللبرالية، وتمكن من الفوز بالانتخابات البرلمانية السابقة 2014 بحصوله على 86 نائبا. لكنه تراجع مؤخرا نتيجة العديد من الأزمات الداخلية، ولم يعد لديه أكثر من 37 نائبا، وحرص على حماية مكتسبات الثورة، وتعزيز وتجذير المجتمع المدني.
قلائل هم القادة والزعماء والرؤساء، الذين يمكن الكتابة عنهم، لأنه ليس كل رئيس دولة يمكنه تمثل روح الشعب والوطن والأمة، هناك رؤساء الصدفة، ورؤساء الانقلابات السوداء، وهناك أتباع الغرب وأجنداتهم وأهدافهم في الوطن العربي. والرئيس الباجي قايد السبسي، هو من القلائل، الذين يمكن الكتابة عنهم بشجاعة، ودون خشية، أو تردد، لأنه نموذج يحتذى به تونسيا وعربيا وعالميا.
رحم الله الرئيس الزعيم الحكيم والشجاع الباجي قايد السبسي، وأتمنى للشعب التونسي الشقيق تخطي كل العقبات من خلال انتخابه برلمانا يعكس إرادة التغيير الديمقراطي، ليحمي منصة العدالة الاجتماعية، والمجتمع المدني في الـ15 من أيلول/ سبتمبر القادم (2019)، وهذا ما قرره الرئيس الانتقالي محمد الناصر، حرصا منه على الانتقال السلمي والهادئ للسلطات، ووفق المعايير الديمقراطية. وعاشت تونس حرة مستقلة.