على امتداد السنوات الماضية تنوعت المعارك المفصلية التي واجهتها القضية الفلسطينية مع الاحتلال، معارك كانت وما زالت مصيرية بكل ما في الكلمة من معنى، البعض كان يتوقع ألا تخرج القضية والقيادة الشرعية من هذه المعارك كما دخلتها، وراهن على ان القيادة ستنكسر وتعلن موافقتها على تفاهمات أقل ما يقال عنها "صفقات الإذعان"، هذه هي طبيعة قصيري النظر وعدم العارفين بجوهر ومعدن قيادة شعبنا الفلسطيني وتمسكها بالثوابت والحل العادل للصراع على أسس مبادرات الإجماع الفلسطيني والعربي والدولي، متمثلة بقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.
كان لي ولعدد من الزملاء الإعلاميين على المستويين المحلي والعربي لقاء استثنائي مع سيادة الرئيس محمود عباس قبل أيام في مقر الرئاسة برام الله، جاء اللقاء في إطار إحاطة إعلامية وحوار صحفي صريح مع سيادته، أنها واحدة من الخطوات المهمة لتكامل الجهود والدور والرسالة الإعلامية بين القيادة السياسية والسلطة الرابعة، لقاء يمثل مساحة رسمية لمعرفة وفهم توجهات القيادة في هذه المرحلة الحساسة، وبناء رؤية مساندة لمواجهة تحديات وتداعيات الظروف الجيوسياسية وانعكاساتها على القضية الفلسطينية، إنها مرحلة تتطلب وتحتم علينا جميعاً وفي كل الساحات والميادين، الوقوف صفاً واحداً دعماً وإسنادًا لمواقف القيادة الفلسطينية، وتركيز الطاقات كافة خلف الموقف الفلسطيني الرسمي في وجه كل محاولات إضعاف صمود موقفنا الرسمي والشعبي، هذه هي مرحلة الوحدة والاستمرار وحشد الطاقات تحت عنوان "صمودنا في مواجهة صفقة القرن صمام الأمان لعدالة قضيتنا".
المواجهة مع المسارات التي صاحبت الترويج لصفقة القرن فتحت ساحات مواجهة متعددة، ولعل واحدة من أهم تلك الساحات المحاولات التي تقودها سلطات الاحتلال وأجهزتها الإعلامية للنيل من شرعية القيادة الفلسطينية، وايهام العالم بعدم وجود طرف يمكن التفاوض معه من الطرف الفلسطيني، سياسة مضللة تتستر تحت حقيقة ان الحكومة الإسرائيلية الحالية ليست مستعدة لاي تفاوض حقيقي، لا بل على العكس هي لا تتوانى عن الانسحاب من كل التفاهمات الموقعة سابقاً، وتقوم بذر الرماد في العيون لإغفال المراقبين والمجتمع المحلي عن يمينيتها المفرطة، وتغولها الاستيطاني على أرض الواقع وتغذيتها لكل ما من شأنه اعطاؤها المبررات للتنصل من الاتفاقات المبرمة او الالتزام بقرارات الشرعية الدولية، اضافة لتراجعها المتواصل امام ضغوط اليمين الإسرائيلي وتقديم الصفقات على حساب متطلبات السلام العادل لصالح تشكيل ائتلاف حكومي يميني، متناسية انه دون سلام عادل وشامل فإن اية حكومة إسرائيلية ستبقى في حالة عدم استقرار أو توازن داخلي لأن المساومات على حساب شروط السلام لا تؤدي إلا إلى حكومات مؤقتة ودعوات لحجب الثقة والذهاب إلى انتخابات مبكرة، وهذه للاسف التجربة والدرس اللذين افرزهما تعاقب الحكومات الإسرائيلية والانتخابات العادية والمبكرة منذ بدء عملية السلام بين الجانبين مطلع تسعينيات القرن الماضي.
على الجانب الآخر، أظهرت القيادة الفلسطينية وضوحاً وحزماً لا يقبل القسمة على اثنين في موقفها من شروط ومتطلبات السلام العادل، وموقفها الواضح من الإجماع الدولي على مبدأ الحل القائم على حل الدولتين، فقيام الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على حدود الخامس من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية والحل العادل لقضية اللاجئين، تشكل الحل الوحيد للاستقرار والأمن والسلام العادل لشعوب المنطقة، وهو الخيار الوحيد لإنهاء الصراع واستثمار الموارد في تنمية الشرق الأوسط بديلاً للحروب والشرور التي تأكل الأخضر واليابس من مقدرات المنطقة تحت ستار تسابق التسلح والإنفاق المتزايد على ويلات الحروب والصراعات.
الموقف التاريخي للقيادة الفلسطينية في مواجهة صفقة القرن وأخواتها، والتصدي بكل حزم لتداعياتها على الداخل الفلسطيني وعلى محيطها وعمقها العربي والإسلامي، ينبع من صلابة الموقف الذي ربط السلام بالتعاون الإقليمي والعيش الآمن للجميع، فالحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية مقدمة للمصالحة التاريخية في المنطقة، وليس الحل نتيجة للتصالح، ودعوة القيادة الفلسطينية لكافة الدول العربية والإسلامية والدول الصديقة لمساندة الموقف الرسمي للقيادة والشعب الفلسطيني ينبع من رؤية تستند إلى أنّ الحل الجذري يتمثل في إنهاء الاحتلال وإتاحة الطريق للشعب الفلسطيني لتقرير مصيره أسوة بشعوب العالم الحر، فالتمسك بمبادرة السلام العربية يشكل في حال موافقة كافة الأطراف عليه صفقة تاريخية، وحينها يمكننا القول إن هناك صفقة قرن حقيقية، صفقة تنهي أطول احتلال في التاريخ، صفقة تنهي عشرات السنوات من اللجوء والشتات لملايين الفلسطينيين، صفقة تاريخية تنهي معاناة آلاف الأسرى والمعتقلين من أبناء شعبنا.
لهذه الأسباب قالت القيادة الفلسطينية "لا كبيرة" لصفقة القرن، وأعلنت بكل وضوح رفضها للانحياز الاميركي لدولة الاحتلال وسياساتها، بدءًا من الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ومروراً بنقل السفارة الأميركية إلى القدس وما تبعها من مواقف تضعف دور المؤسسات الصديقة والداعمة للقضية الفلسطينية من اليونسكو والأونروا وغيرها، لذلك فان الوساطة النزيهة تقتضي من أصحابها الوقوف على مسافة متساوية من أطراف النزاع، وتقتضي أن يكون موقفها واضحا وشفافا من عدم الاعتراف بأية إجراءات يفرضها الاحتلال على أرض الواقع بحكم القوة لتغيير فلسطينية المكان والزمان، وتقتضي كذلك التعامل على نحو متساو مع الأطراف، لأن الوسيط النزيه لا يصنف هذا الطرف كصديق وحليف استراتيجي والطرف الآخر من معادلة الصراع كعدو تاريخي.
تبذل القيادة الفلسطينية كل جهد للإبقاء على عملية السلام على قيد الحياة، او على الاقل على طاولة التفاوض لكن بشروط عادلة، وتسعى لحشد تأييد كافة الأطراف الدولية لتحريك عملية السلام القائم على القرارات الشرعية الدولية، والبناء على ما تم الاتفاق عليه خلال مراحل التفاوض السابقة، وتسعى كذلك لإبراز وتعزيز دور اللجنة الرباعية باعتبارها حاضنة وراعية لعملية السلام، كونها صاحبة مصلحة حقيقية في تحقيق السلام والاستقرار وخلق بيئة تسمح لابناء المنطقة بالعيش بسلام وتحقيق التنمية المستدامة في مجتمعات ديمقراطية بعيدة عن الحروب والصراعات.
انها دعوة حقيقية لخطوات تاريخية ومواجهة التهرب من استحقاقات السلام العادل، دعوة تتطلب مواقف جريئة ممن يريد ان يصنع سلاماً قابلاً للحياة وخلق مستقبل جديد، دعوة تتطلب من قيادة الطرف الآخر التوقف عن استخدام المفاوضات مع الطرف الفلسطيني كورقة للمساومات الحكومية الداخلية، دعوة فلسطينية لإحياء مواقف الاجماع العربية خلف مبادرة السلام العربية للحفاظ على قوة الموقف العربي من الصراع والسلام، دعوة تعيد التأكيد على أن جوهر الصراع والسلام هو القضية الفلسطينية، والتأخير في حلها، او محاولة وضعها جانباً في نهاية الاهتمام الدولي والاقليمي لن يجلب الا مزيداً من التعقيدات واستمرار أشكال وحالات الصراع لكن بأشكال مختلفة.
في هذه الاجواء تتعاطى القيادة الفلسطينية مع الملف السياسي والمبادرات الدولية، ولا بديل عن الصمود في وجه محاولات تصفية القضية الفلسطينية ممثلة بمشروع الحل الاقتصادي لصفقة القرن، والانتصار على ذلك هو انتصار للحق وفي مصلحة كافة شعوب المنطقة، لأن الحلول الزائفة مضيعة للوقت وهدر للموارد وبوابة للفساد الاقتصادي وليس بوابة للنعيم الاقتصادي كما يظن بعض المروجين.
ليست المرة الاولى التي تقف فيها قيادتنا وشعبنا وقواه السياسية على مفترق طرق، لكنها المرة الاكثر خطورة في ظل ظروف جيوسياسية لم تكن على هذا النحو من الوضوح كما كانت في محطات سابقة، لكن كالمبادرات او البالونات السياسية التي اطلقها اصحابها حينما كانوا على كراسي مناصبهم، ودافعوا عنها، وحاولوا إشعار القيادة والشعب الفلسطينيين أنها فرصتكم الاخيرة للركوب في قطار التسوية وضمان مقعد في مستقبل التحالفات، لكن ما هي الا بضع سنوات حتى اندثرت تلك المبادرات واتضح زيف مقولة انها الفرصة الاخيرة، طويت تلك المبادرات وكان مصيرها سلة المهملات السياسية، وبقي شعبنا وبقيت قيادتنا رغم مرور الازمات والنكبات، لاننا ابناء حق واصحاب قضية عادلة، قد ننحني قليلاً، لكن هي مجرد لحظة لالتقاط الانفاس ومواصلة المسيرة حتى القدس عاصمة دولة فلسطين المستقلة "شاء من شاء وأبى من أبى".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها