تقرير: إيهاب الريماوي

لم يكن محمد مغالسة، الأسير في معتقل "عوفر" يعلم أن حلمه بأن يصبح طبيب أسنان، سيتطلب كل هذا الألم و"تذوقه" على نحو لم يعهده يوما.

وهاكم الحكاية: طلب محمد من أحد رفاقه في الأسر مقص أظافر، عندما اشتد عليه الوجع، ركن في إحدى زوايا غرفة السجن لمدة يومين. لم يتناول الطعام أو الشراب الى أن قرر اجراء عملية ذاتية لنفسه.

"إنها عملية جراحية" استمرت على مدار يومين ساعده فيها رفاقه الأسرى.. عملية تخللتها تباريح ألم، وعويل، ودموع مكتومة.

تمكنت عائلته من زيارته قبل عيد الفطر الماضي، يومها كان قليل الكلام، شعرت والدته أن هناك أمرا ما، حاول محمد أن يخفي عنها، لكنه في النهاية أخبرها أن ألم الأسنان الذي يعاني منه لم يعد يتحمله، وكان حينها يعاني من التهابات حادة، وجزء من تقويمه قد هلك بفعل غياب العلاج والمتابعة الطبية.

"محمد أجرى عملية جراحة أسنان لنفسه باستخدام مقص للأظافر بعد التهابات وتقرحات كان يعاني منها".. هكذا أخبر المحامي عائلته بعد زيارته الأخيرة.

في رسالته عبر المحامي قال محمد "إن إزالة تقويم الأسنان كان عملية صعبة، خاصة أن التقويم مركب بطريقة معقدة يصعب على الإنسان العادي إزالته، لكن حلمه بأن يصبح طبيا للأسنان ابتدأ من هذه العملية" تضيف والدته.

تسبب إزالة تقويم الأسنان أضرارا كبيرا لمحمد، استخدم الميرمية والماء والملح للتخفيف من الأوجاع التي لازمته لفترة طويلة.

الأسير محمد المغالسة (18 عاما) من مخيم الفوار جنوب الخليل والمعتقل منذ نحو خمسة أشهر، عانى من آلام حادة في أسنانه بسبب تهالك طقم التقويم منذ اعتقاله، واشتد عليه الألم خلال فترة التحقيق، فيما ماطلت إدارة سجن "عوفر" الذي يقبع فيه من تحويله إلى الطبيب رغم مطالبته عدة مرات.

"بعد رفض إدارة السجن علاج محمد، طلب أن يصدر تصريحا لطبيب الأسنان الذي كان يراجع عنده، لكن طلبه قوبل بالرفض" تقول والدته عبير أبو وردة.

كان يستعد محمد قبل اعتقاله لتقديم امتحانات الثانوية العامة بالفرع العلمي، وتميز بتفوقه بين أقرانه، حيث إنه دائم المواظبة على دروسه، عازما على تحقيق أفضل النتائج ليحقق حلمه الكبير وحلم والده بأن يصبح طبيب أسنان.

وتضيف والدته: "محمد مميز في دروسه، دائما ما كان يحصل على مراتب متقدمة في المدرسة، فتى خلوق وقدوة بين أشقائه وأصدقائه، كثف التزامه هذا العام بالدراسة لتحقيق حلمه".

اعتقال محمد بدد حلم العائلة ولو مؤقتا بأن يصبح لديها طبيب، خاصة أن هناك اتفاقية بين هيئة شؤون الأسرى والمحررين ووزارة التربية والتعليم عام 2015 بالاكتفاء بتقديم الامتحانات الثانوية بفرعها الأدبي، بسبب غياب الكادر المؤهل في السجون للإشراف على الفرع العلمي.

محمد من عائلة متفوقة، شقيقته شيماء تخرجت مؤخرا بتقدير عال في تخصص أنظمة المعلومات من جامعة البوليتكنك بالخليل، وشهد طالب سنة ثالثة في تخصص الهندسة المدنية، وورود تستعد لتقديم امتحان الامتياز في العلاج الطبيعي.

"كان محمد محرك البيت، ودائم النشاط والمزاح مع أشقائه، اعتقاله تسبب بأضرار نفسية كبيرة علينا خاصة شقيقه الأصغر نصر الدين 13 عاما الذي أصبح انطوائيا بعض الشيء، كما أن شقيقه الآخر صلاح الدين 15 عاما تراجع كثيرا في دروسه، شيء ما غاب عن المنزل فجأة، محمد كان سُكر البيت وحلاوته"، تقول والدته.

تصر عبير أبو وردة على أن محمد سيحقق حلمه بأن يصبح طبيب أسنان، وسيقدم امتحان الثانوية العامة بالفرع العلمي عند خروجه من الأسر، ويحقق حلم العائلة بأن يصبح لديها طبيب تفخر به.

لم تتوقف إدارة سجون الاحتلال يوماً عن استخدام حرمان العلاج كأداة للتنكيل بالأسرى المرضى؛ دون أدنى اعتبار لوجود حقوق للأسير بتقديم العلاج اللازم له، علما أن جزءا كبيرا من الأسرى وتحديدا من قضوا سنوات طويلة يعانون من مشاكل كبيرة في الأسنان وهم بحاجة إلى متابعة حثيثة.

وتفرض إدارة سجون الاحتلال إجراءات تنكيلية بحق الأسرى المرضى رغم وضعهم الصحي، منها تقييدهم وتكبيلهم أثناء العلاج، أو أثناء نقلهم للعلاج، يضاف إلى ذلك رحلة العذاب التي ترافقهم جراء نقلهم عبر عربة "البوسطة".

فمنذ عام 1967م استشهد (63) أسيرا، داخل سجون الاحتلال بسبب الإهمال الطبي، واستشهد عدد آخر بعد الإفراج عنهم بفترات قليلة جراء أوضاعهم الصحية والأمراض التي هاجمتهم داخل سجون الاحتلال، والذي رافقها إهمال طبي متعمد، وكان آخرهم الشهيد فارس بارود من غزة الذي استشهد بعد (28) عاما من الاعتقال.

ووفقا لعمليات التوثيق فقد وصل عدد الأسرى المرضى إلى أكثر من (700) أسير، منهم (19) أسيرا يقبعون في "عيادة سجن الرملة"، غالبيتهم من الأسرى الجرحى الذين أصيبوا خلال الهبة الجماهيرية التي بدأت في أكتوبر عام 2015، ومع ازدياد أعداد الجرحى تفاقمت قضية الأسرى المرضى.