لا أكتبُ اكتشافًا لما هو مكتشَف أصلاً، ولكن أرغب بالتذكير بما نكون قد نسيناه، ما دفعني حقيقة أن أكتب مقالاً كتابُ فيصل دراج الذي قرأته مؤخّراً وهو "آل عبد الهادي في تاريخ فلسطين.. أقدار وطن ومآل نخبة وطنية".
هذا الكتاب، وإلى جانب المحاولات البريطانية لمنع ظهور نخبة وطنية فلسطينية تمهِّد لقيام دولة فلسطينية مستقلة حتى قبل ظهور المشروع الصهيوني، يُظهر كيف رأت بريطانيا والغرب عمومًا فلسطين والمنطقة عبر تقارير القناصل وكتبهم وكتب بعض المستشرقين، ودون العودة لهذه الكتب والتقارير، لا يمكن فهم مضمون وعد بلفور عام 1917.
فإلى جانب الخطورة التي تضمَّنها الوعد بما يتعلَّق بمنح الشعب اليهودي وطنًا قوميًّا لهم في فلسطين، فإنَّ الأخطر هو تعامل الوعد مع الشعب الفلسطيني كمجموعة من الأقليات لها حقوق دينية ومدنية فقط وليست له أي حقوق سياسية أو تاريخية.
لنعود إلى ما أورده دراج في كتبه انطلاقًا من وجهة نظر القناصل المستشرقين، هم رأوا في فلسطين جغرافية توراتية وسكان فلسطين عبارة عن طوائف، والأخطر إبراز أنَّ العرب المسلمين لا ولاء لهم لوطنهم وإنّما لدينهم، وبالتالي لا هويات وطنية أو قومية لهم، الأمر الذي ينفي عنهم صفة شعب أو أمة.
ففي حين اعتبر بلفور اليهود ذوي الجنسيات المختلفة شعبًا وله الحق في وطن له في فلسطين، التي لم يرَ فيها سوى جغرافيا التوراة والميثولوجيا التوراتية، فإنّه تعمَّد تفكيك الشعب الفلسطيني إلى أقليات طائفية بهدف حرمانهم من صفة شعب له حقوق سياسية وله الحق في تقرير مصيره بنفسه على أرض وطنه.
مَن راقب الإعلام البريطاني، وكالة رويترز وهيئة البث البريطانية الـ BBCعلى امتداد عقود، لاحظ ببساطة أنّها كانت تتعامل مع الشعوب العربية كأقليات طائفية ومذهبية، شيعة، سنة، مسيحيين، أرثوذكس، وكاثوليك وموارنة.. الخ. هذه النظرة للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية، وهذا الخطاب الإعلامي، أعلن انتصاره النهائي في ثورات الربيع العربي التي مزَّقت الهُويّات الوطنية والشعوب كشعوب واستبدلتها بأقليات طائفية ومذهبية متناحرة، وهذه بالضبط مفردات وعد بلفور، لا شعوب لها هويتها الوطنية، ولا عرب لهم هوية قومية.
في ظلِّ هذه النظرة وهذه الاستراتيجية الاستعمارية، التي جاء في سياقها المشروع الصهيوني، اختراع شعب وتفكيك آخر، كتاب آخر للكاتب مهند عبد الحميد، تمَّ تفكيك الأمة العربية على مراحل. واليوم يتوّج الاستعمار استراتيجيته التي حققت نجاحًا بإخراج تأتي فيه "صفقة القرن"، وجاء في سياقها قانون "يهودية الدولة" الذي يمنح اليهود وحدهم حق تقرير المصير في فلسطين وربما من النيل إلى الفرات، لتكون إسرائيل هي الحقيقة الوحيدة في المنطقة.