لا يضيف المرء جديدًا للقارئ، عندما يؤكد أنّ الاتحاد الأوروبي يقف على رأس المانحين الداعمين لموازنة السلطة الوطنية. لكن هذا الدعم ليس لوجه الله، ولا لسواد عيون السلطة الوطنية، ولا هو عربون محبة للعلاقة مع الشعب الفلسطيني وقيادته، ولا تعويضًا عن الدور الخطير، الذي ارتكبته القارة العجوز في التأصيل لولادة القاعدة المادية للحركة الصهيونية في أرض فلسطين (إسرائيل) على أنقاض نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، إنّما لأسباب تتعلّق بمصالح الغرب الرأسمالي عموما، وأوروبا خصوصًا. لا سيما وأن تحالف رأس المال الصناعي، العسكري والمالي تقاسم الأدوار في إقامة المشروع الكولونيالي الإجلائي والإحلالي الصهيوني على حساب الفلسطينيين ومصالحهم وحقوقهم التاريخية في أرض وطنهم الأم، ومازال أركان التحالف الغربي منهمكين في إخراج السيناريو، الذي يؤمن حماية الدولة الإسرائيلية الاستعمارية، من خلال احتفاظها بالجزء الأكبر من فلسطين التاريخية، ومنح الفلسطينيين بعضا من حقوقهم، وبما لا يؤثر على مستقبل المشروع الاستعماري الصهيوني، ومن ضمن ذلك تغطية جزء من نفقات إقامة الدولة الفلسطينية، المرفوضة إسرائيليا وأميركيا منذ تولي ترامب الحكم في الولايات المتحدة مطلع عام 2017. وبالتالي الدعم الأوروبي له ثمن، حماية مصالح الغرب في الوطن العربي.

ورغم معرفة القيادة الفلسطينية بالخلفية الأوروبية لدعم موازنة السلطة، إلا أنّها تتعامل بإيجابية مع ذلك، ليس تواطؤا على الذات، ولا تساوقا مع الغرب الرأسمالي، ولا تنكرا للرواية التاريخية الفلسطينية، ولا تهربا من المسؤوليات الملقاة على عاتقها، ولكن انسجاما مع المصالح العليا للشعب الفلسطيني في ضوء القراءة العلمية للشرطين الذاتي والموضوعي، وتمشيا مع قرارات ومواثيق الشرعية الدولية من جهة، ولفضح وتعرية وجه إسرائيل المارقة والخارجة على القانون من جهة ثانية، والتأكيد للعالم أن الباطل الإسرائيلي لا يقبل القسمة على أي مشروع سلام ممكن ومقبول، وبغض النظر عن حجم التنازلات الفلسطينية.

ومثال صغير على حدود وسقف الموقف الأوروبي من مسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، نلاحظ أن دول الاتحاد الأوروبي كانت سباقة في تبني خيار الدولة الفلسطينية، وهو ما عبر عنه بيان البندقية في العام 1980، بعد توقيع السادات على اتفاقية كامب ديفيد 1979 ولكن أوروبا لم تتجاوز حتى الآن الدعم اللفظي لهذا الخيار باستثناء السويد، ومازالت تراوح في ذات المكان، ولم تتجرأ على الاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية، ولم ترفع سقف ضغوطها على إسرائيل الاستعمارية لتكريس حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، وبقيت أسيرة الناظم العام لتوجهات تحالف الطغم المالية، الصناعية والعسكرية، الذي يدور في دوامة أباطرة راس المال المالي، الخاضعة للعائلات اليهودية الصهيونية.

ومثال جديد يكشف عن حالة التعثر، والضبابية الأوروبية، التي تجسدت في اجتماع الدول المانحة يوم الثلاثاء الماضي في العاصمة البلجيكية/ بروكسل، فبدل أن تتخذ الدول الأوروبية موقفا حاسما، وداعما لقرار القيادة الفلسطينية، الرافض استلام أموال المقاصة الفلسطينية ناقصة مليما واحدا، لأنها أموال فلسطينية صافية، وليست منةً من احد، وتدفع لقاء تحصيلها 3% على كل شيقل تجمعه دولة الاحتلال الصهيوينة، يطالبها الاتحاد الأوروبي بالتالي: أولاً استلامها ناقصة لحين إيجاد حل للمعضلة مع إسرائيل؛ والثاني الخضوع لابتزاز دولة التطهير العرقي الإسرائيلية فيما يتعلق برواتب ذوي الشهداء، والأسرى، وتحويل رواتبهم لوزارة الشؤون الاجتماعية، والتعامل مع الأمر على أساس اجتماعي احتياجاتي، واسترزاقي، وحرفه عن جوهر العملية السياسية الكفاحية، بحيث يتم تحويل الأسرى والشهداء إلى "شحادين"، وليسوا مناضلين وطنيين، متجاهلة تلك الدول الأوروبية، أن رواتب الشهداء، والأسرى دين على كل فلسطيني والعالم ككل وفي مقدمته أوروبا الشائخة، لأنهم رموز للكفاح التحرري الوطني، وعناوين يفتخر بها الشعب الفلسطيني، وان الإرهابي، هو الإسرائيلي الصهيوني، لإنه قاتل، ومغتصب للأرض، ومعاد للسلام والتعايش. وبالتالي القراءة الموضوعية للاقتراح الأوروبي تشير إلى انه يصب من حيث تريد أوروبا، أو لا تريد في النفق الظلامي الإسرائيلي. الأمر الذي يحتم عليها إعادة نظر في مواقفها، والانسجام مع القرارات والمعاهدات الدولية، والالتزام بالاتفاقيات المبرمة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وخاصة بروتوكول باريس الاقتصادي.

بديهي لا أطلب من أوروبا أن تخلع ثوبها، ولكنّني أحثها على الانسجام مع محددات عملية السلام، وخيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، والكف عن التساوق مع منطق نتنياهو وترامب، لأنه يدمر كل أمل في بلوغ جادة السلام.