لم يتَّخذ الرئيس أبو مازن، ولا يتَّخذ عادة قراراته، خاصّةً "الصعبة والقاسية" قبل أن يمتلك المعلومة الواضحة والكاملة من جهات الاختصاص، لأجل اتخاذ قرار بصدد أي من قضايا الشأن العام، سواء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، يراجع كلّ شيء، ويدقِّق في الأرقام والمعطيات، ويبحث في التداعيات المحتملة وسُبُل مواجهة السلبيات منها، وبهذا المنهج، وعلى هذه القاعدة جاء قرار الرئيس أبو مازن بعدم استلام أموال المقاصة الفلسطينية من الجانب الإسرائيلي، إذا ما كانت ناقصة قرشًا واحدًا، لا لأنّ استلامها ناقصة تشريع للقرصنة الإسرائيلية واعتراف بروايتها العنصرية المخادعة بشأن شهدائنا وأسرانا وجرحانا فقط، وإنَّما وهذا هو الأهم، أنّ هذه القضية في قِيَمنا وأخلاقياتنا الوطنية، وثوابتها المبدئية، خط أحمر غير مسموح لأحد المساس به ولا بأي حال من الأحوال.

ولم يتَّخذ الرئيس أبو مازن هذا القرار برغم ضرورته الوطنية والأخلاقية، إلّا بعد أن استمع لشرح مفصّل من قِبَل رئيس الحكومة ووزير المالية، لطبيعة وحقيقة الوضع الاقتصادي الراهن في بلادنا، وبالأرقام الإحصائية والواقعية، التي كانت بمجملها أرقام الصعوبة، ولكن ومثلما أكّد الرئيس أبو مازن يوم أمس الأول في أريحا خلال افتتاحه منشآت في جامعة الاستقلال "نحن عندما نتّخذ قرارات صعبة وقاسية وقد تبدو صلبة ولكنّها لحماية مصالحنا ولحماية مستقبلنا ولحماية حقوقنا".

والأمر ذاته على الصعيد السياسي لا يصدر القرار الرئاسي بناء على أيّة انفعالات عاطفية، وحسابات شعبوية، واليقين بسلامة الثوابت المبدئية، وحتمية انتصارها، هو ما كرّس ويكرّس ضرورة القرار الوطني المستقل وصوابه، وفي هذا الإطار لم يقل الرئيس أبو مازن لا لصفقة العصر الصهيونية، لغاية استهلاكية، أو استعراضية، ولا لغاية أية مساومات سياسية، وإنّما لأجل القدس العاصمة التي لا تقبل مساومة، ولا طرحًا في أسواق النخاسة، التي تريدها صفقة ترامب الصهيونية وعلى هذا النحو أكّد ويؤكّد الرئيس أبو مازن : "عندما نقول لأحد لا من أجل القدس، نقولها بالفم الملآن، القدس خط أحمر، وشهداؤكم منذ عام خمسة وستين، وأسراكم وجرحاكم خط أحمر كذلك، هذه الخطوط الحمراء نحن متمسكون بها وندافع عنها مهما كلّفنا ذلك من ثمن".

ونعرف لا تصنع التاريخ القرارات الانفعالية، والمزايدات اللغوية السهلة، وإنّما القرارات الصعبة وحدها هي من يصنع التاريخ، لأنّها قرارات الحق والصواب بقدر ما تتفحّص الواقع وتدرك معضلاته ومعطياته، وبقدر ما تتحمل من مسؤولية وما تقرر من تحدٍّ وصمود ومواجهة، وبهذا النهج وهذه الرؤية يوقّع الرئيس أبو مازن على مواقف القرار الوطني المستقل الذي لا يسعى لغير حرية فلسطين وشعبها، بدولة مستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية وبالحل العادل لقضية اللاجئين ودائمًا شاء من شاء وأبى من أبى.