لا يمكن مطلقًا لمراقب أن يتجاوز التطورات المهمة في بلد المليون ونصف المليون شهيد، التي عاشت على مدار الأربعين يوما الماضية منذ الـ22 من شباط / فبراير حتى الـ2 من نيسان/ إبريل الحالي (2019) حراكا شعبيا سلميا عظيما، أكّد قدرة الشعب الجزائري البطل على التكامل مع مؤسسته العسكرية والأمنية في قطع الطريق على كل من يريد بالوطن الجزائري شرا، وبذلك تواصل الحراك بتناغم وتعاون ملفت للنظر ما بين إرادة الشعب وإرادة الجيش الوطني، حتى دفع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لإرسال رسالة لرئيس المجلس التأسيسي الطيب بلعيز يعلمه بانتهاء عهدة ولايته، أي الإقرار برغبة الشعب، والتخلي عن الحكم، بعد أن حاول ممن حوله وخاصة مستشاره وشقيقه السعيد بوتفليقة على ترشيحه لولاية خامسة، لكن الشعب هب في مختلف المحافظات رافضا مبدأ مشاركة الرئيس من حيث المبدأ في الانتخابات. لا سيما وانه مريض، وعاجز عن ممارسة مهامه القيادية، مما دفع السعيد ومن معه إلى التراجع عن ترشح الرئيس لعهدة خامسة، وحاولوا الالتفاف على هبة الشارع الجزائري، إلّا انهم فشلوا فشلا ذريعا، واستسلموا لإرادة الشعب.

ولعل المفارقة الأهم في المعادلة الجزائرية، أنّ التحرير والاستقلال عن الاستعمار الفرنسي عام 1962، قبل 57 عاما احتاج إلى مليون ونصف المليون من الشهداء، إلّا أنّ الإصلاح الوطني الداخلي لم يحتاج لأكثر من شهيد و185 جريحًا نتيجة التزاحم، وهو ما يعكس الرقي والمدنية في العملية الاجتماعية، ويؤكد حرص الشعب والجيش على وحدة الوطن والبلاد، والنسيج الاجتماعي، والتمسك بالتغيير الديمقراطي.

وأمس الأربعاء الموافق 3/4/ 2019 التأم المجلس الدستوري في العاصمة الجزائر/ حي بن كعنون، وأكّد شغور موقع الرئيس، وعليه ستتم عملية استكمال الخطوات الدستورية وفق المواد ذات الصلة بدءا من المادة 102 إلى المواد 104 و8 و9، وبذلك الصلاحيات من المفترض أن توكل لرئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح لمدة 90 يوما للتحضير لانتخابات رئاسية جديدة. وفي حال كان هناك تحفظ من الشعب على بن صالح، يمكن لرئيس المجلس الدستوري تولي الرئاسة للمرحلة الانتقالية. ولكن أيًّا منهما، ليس مسموحا لهما الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة.

باستقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعد عقدين من الحكم، ووفق المؤشرات الماثلة في المشهد الجزائري، تكون الجزائر انعطفت نحو محطة تاريخية جديدة من مسيرة نظامها السياسي، ويبدو أنّ المرحلة القادمة قد تحمل ملامح نظام سياسي جديد، ومختلف نسبيا عن نظام جبهة التحرير الوطني الجزائرية، وارتباطا بشعارات الشارع ونخبه السياسية، التي رفعوها في مظاهراتهم السلمية على مدار الأربعين يوما الماضية. ولكن من السابق لأوانه الجزم بطبيعة التطورات اللاحقة في الجزائر الشقيق. غير أن المؤكد، أن الشعب وقواه السياسية الحية، ومعهم المؤسسة الأمنية/ العسكرية، التي تخلت عن دعم الرئيس السابق بوتفليقة، ونسقت خطواتها خلال الأيام الأخيرة مع الحراك الشعبي، ستتوافق على سيناريوهات الإخراج المناسب للنظام السياسي الجديد، الذي أعتقد انه بحكم التشبيك بين القوى المختلفة، والفاعلة في التطورات الجارية على الأرض، لن يقطع مع الجذور كليا، وسيبقي الباب مواربا لوجود شخصيات وازنة ونظيفة الكف من الحرس القديم، أو من امتداداتهم الأكاديمية والأمنية، ومقبل الأيام هو الحكم على كل التقديرات الجارية.

في كل الأحوال لا أملك سوى أن اسجل اعتزازي كفلسطيني وعربي بما عكسه الحراك الشعبي الجزائري العظيم، وما نتج عن التكامل وتظافر الجهود بين الشعب وحارس البلاد، الجيش الجزائري، والمؤسسات الأمنية المختلفة في الوصول لنقطة ارتكاز جديدة في مسيرة الألف ميل للجزائر المستقل والشجاع. ومع ذلك هناك محاذير من أخطار القوى المتربصة بالجزائر ومستقبله، كون تلك القوى ومن يقف خلفها من الغرب الاستعماري لن يتركوه يعيش بسلام، وستحاول وضع العصي في دواليب التحول الاستراتيجي داخل بلد المليون ونصف المليون شهيد.

لكن المؤكد أنَّ قلوبنا وعقولنا كفلسطينيين وعرب تشخص نحو الجزائر، متمنين لها البقاء شامخة قوية وعملاقة. وعاشت الجزائر حرة أبية.