خلصت مخرجات ما سُمي بمؤتمر وارسو إلى النتيجة المقّدر لها بالفشل في تحقيق أهدافه المتناقضة مع حقائق الوضع في منطقتنا. لقد أعاد بنا هذا المؤتمر الذاكرة إلى العدد الهائل من المؤتمرات واللقاءات والمؤامرات التي سعت لتصفية قضية فلسطين والقضاء على شعبها منذ أكثر من مائة عام مروراً بالنكبة الكبرى عام 1948 والنكبات المتلاحقة حتى يومنا الحاضر. لكن جميع هذه المؤامرات باءت بالفشل، ولفظها التاريخ بفعل إرادة شعبنا الفلسطيني المتجذر بأرضه والمتمسك بحقوقه المشروعة وثوابته الوطنية الراسخة.
إن الحراك المحموم الذي تقوده إدارة ترامب مع سلطة الاحتلال بهدف ترسيخ الهيمنة والاحتلال الإسرائيلي، وإملاء المواقف المعروفة في التأكيد على أمن إسرائيل وأولوياتها وضمان تفوقها النوعي والاستراتيجي عسكرياً واقتصادياً، واستغلال الوضع الإقليمي لتعزيز الموقف والرواية الإسرائيلية، والضغط على الجانب الفلسطيني للقبول بحلول أحادية بعيدة كل البعد عن فرص واقعية للحل السياسي، ولرفع العزلة التي فرضتها عليها المقاطعة الفلسطينية لدورها كراعِ وحيد لعملية السلام، لم ولن يكتب له النجاح.
تجسدت آخر هذه المحاولات، وليس بآخرها، بعقد مؤتمر وارسو الذي يعتبر واحدة من الخطوات العملية التي لجأت لها الولايات المتحدة لتنفيذ أهداف صفقة القرن وتسويقها قبل الإعلان عنها رسمياً، ولإزالة مبادرة السلام العربية من الطاولة، ولتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، وإعادة رسم تحالفات في المنطقة بما يشمل شطب أولوية حل القضية الفلسطينية ومكوناتها الرئيسية من على جدول الأعمال الدولي، وحرف الأنظار عن الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه باعتباره المصدر الرئيسي لفقدان الأمن والاستقرار، وبما يضمن أيضاً قيادة الولايات المتحدة لهذا التحالف لاستعادة هيمنتها في المنطقة. وبسبب الجهل في تعلم تاريخ المنطقة، ولخدمة أهداف أميركا في تخريب النظام الدولي برمته، فإن هذه الصيغة من التحالفات من شأنها أن تشكل وصفة أمريكية جديدة لتأجيج الخلافات بين الدول العربية أيضاً، وتعميق انقسامها إلى محاور متصارعة تحول دون معالجة الآثار المدمرة للحروب الأهلية التي شهدتها بعض الدول العربية خلال العقد الماضي.
قد يبدو للبعض أن رعاية الولايات المتحدة لمؤتمر ضم 60 دولة بتمثيل هزيل، قد نجح بتأمين حضور إسرائيلي-عربي علني يمنح خلاله إسرائيل الصورة المثلى في إظهار وحدة عربية إسرائيلية متماسكة ضد العدو المشترك لهما، إيران، والتهديد بشن حرب عليها. وقد يبدو لهم أن الأمر الواقع الأمريكي الذي لا يعترف بحل الدولتين، واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأزال قضية اللاجئين من الطاولة، وغيرها، قد ينجح في حشد الأموال من أجل تمرير مخططاته وحلوله المجتزأة والانتقالية "الاقتصادية والإنسانية" منها، إلاّ أنه واهمٌ من يعتقد أنه سينجح في إقامة سلام عادل ودائم في المنطقة طالما بقيت القضية المركزية الفلسطينية للعرب والمسلمين دون حل سياسي جذري ينهي الاحتلال ويجسّد سيادة فلسطين المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس.
ففي هذا المؤتمر، وجه حلفاء تاريخيين للولايات المتحدة الأمريكية مثل السعودية والأردن ومصر والمغرب والكويت وقطر وغيرها من الدول العربية الرسالة السياسية الصحيحة لأمريكا وإسرائيل، وكل من يحذو حذوهما، مقتضاها أن الأسس الرئيسية للسلام أو التطبيع مع إسرائيل لا تمرّ إلا عبر حل قضية فلسطين وإنهاء الاحتلال، وأن الدول العربية لن تتحلل من التزامها بمبادرة السلام العربية التي شكّلت عماد الإجماع العربي، ولن تقوم بقلبها راساً على عقب، وبذلك فالنتيجة الوحيدة التي حصلت عليها إسرائيل وإدارة ترامب هي المزيد من التصميم من القيادة الفلسطينية وتمسكها بثوابتها ومواقفها، والمزيد من الاعتراف العربي بأهمية القضية الفلسطينية وتصدرها أولويات أجنداتهم.
هذا تماماً ما اتضح لرئيس حكومة الاحتلال نتنياهو نفسه عندما اعترف في اجتماع وارسو أنه "إذا ما تم إحراز تقدم وسلام رسمي مع الفلسطينيين، فسوف يساعدنا ذلك مع العالم العربي وأجزاء من العالم الإسلامي"، وأنه "طالما السلام مع الفلسطينيين عالق، فإن السلام والتطبيع مع العرب عالق أيضاً".
من الصحيح أن هذا الاعتراف جاء متأخراً جداً، لكن ذلك لا يعفي إسرائيل وحليفتها من استخلاص العبرة في أن الاعتراف بحل الدولتين أولاً وبقرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية والشروع الفوري في تطبيقها، بما في ذلك التراجع الفوري عن قراراتهم الأحادية المخالفة للشرعية الدولية، والالتزام بقواعد القانون الدولي وإنهاء الاحتلال هو الطريق الوحيد لإحلال السلام والأمن والاستقرار في العالم أجمع.
ورغم أنه كان من المتوخى عدم الانسياق مع هذه المساعي الفاشلة التي تعمق أسباب الاضطراب وتعقد أوضاع المنطقة، إلا أن المطلوب اليوم استثمار الوقت والإمكانيات الدولية في الاتجاه الصحيح الذي يضمن القضاء على السبب الجذري لانعدام الأمن والاستقرار، وحشد الجهود الدولية من أجل عقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة يستند إلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية لحل القضية الفلسطينية بمختلف مكوناتها بما يكفل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتمكين دولة فلسطين من ممارسة سيادتها على أرضها بحدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس، وحل القضية اللاجئين استناداً للقرار الأممي 194، وذلك انسجاماً مع مبادرة السلام التي تقدم بها الرئيس محمود عباس إلى مجلس الأمن في شباط العام الماضي. فمؤتمر دولي بهذه الصيغة هو الذي يمكن أن يعالج الأسباب الجذرية للتوتر وعدم الاستقرار في المنطقة.
إننا ندين جميع المحاولات المشبوهة التي تحاول تصفية قضيتنا ونرفضها ونقاومها كما قاومناها في الماضي ونجحنا بفضل إرادة شعبنا وتصميمه على نيل حقوقه، ونرحب بجميع المبادرات الدولية الكفيلة بإيجاد حل سياسي عادل ودائم للقضية الفلسطينية، بما في ذلك الاجتماع الوزاري المزمع عقده في العاصمة الإيرلندية دبلن، والذي سيبحث الإجراءات الممكنة لمواجهة ما يسمى بصفقة القرن، وتحديد الخطوط الحمراء التي تتعلق بالقضايا الجوهرية والثوابت الوطنية الفلسطينية التي تسعى إدارة ترامب لتجاوزها وعلى رأسها قضية القدس وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي هجّروا منها قسراً خلال نكبة 1948.
بذلك فقط يمكننا تحويل الدعم السياسي الدولي إلى إجراءات عملية وملموسة، وإيجاد إطار تعددي عربي ودولي من أجل إنفاذ القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية بشكل فاعل لإنجاز حقوق الشعب الفلسطيني، ومنع قوى دولية وإقليمية ومتطرفة بما فيها حركة الإخوان المسلمين من إيجاد تربة خصبة لتكريس الفتن والانقسام والتطرف في فلسطين والمنطقة.
إن دعم صمود الشعب الفلسطيني في الوطن والمنافي ومخيمات اللجوء، بما في ذلك تأمين الحماية الدولية العاجلة له، ومحاسبة إسرائيل على انتهاكاتها وجرائمها الممنهجة ضده، هو خطوة إلزامية وصحيحة من أجل تهيئة فرص حقيقة لتحقيق السلام.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها