رحل وليد الكبيسي، كما يرحل العظماء، رحيلا يليق بالطائر المهاجر إلى فضاءات حرية الفكر، وحرية الكلمة.. تناقلته المنافي، ووجد في النرويج، ملاذا آمنا يمارس فيه حريته.. وليد الشخصية الجدلية، عاش ناسكا في معبد الكلمة، واختار مقره الأخير، في تراب البلاد التي أحب.. وليتلاشى في ترابها..
سألني أكثر من صديق، لم تكتبي شيئا عن وليد.. دعوني، أن أصدق الكابوس أولا، رغم مرافقتي له مع أحبائه، أشهره وأيامه الأخيرة لحظة بلحظة. نزفتُ خلالها كل الدموع وكل الكلمات.. لم أستطع بعدُ أن أتحدث، كعادتي، عن أحبائي الراحلين، بفرح وكأنهم حاضرون معي.
ذات يوم، وفي المستشفى. كان ممددا على سريره، ويطلب مني أن أحدثه. تذكرنا سفرنا إلى بيروت والى مناطق عدة في النرويج للمشاركة في قراءات أدبية. غفا وليد وغفا كف يده، بين كفيّ. دقيقتان واستيقظ مذعورا.. حملق بي وقال: أنت أيقظتني؟ قلت لا.. ربما حلمت شيئا جعلك تستيقظ مرتجفا! قال: كيف عرفت؟
قص لي حلمه: في بغداد نبني على سطوح الأبنية جدارا، يكون عادة قليل الارتفاع وعريضا.. وكنت نائما على سور بناية من ثلاثة طوابق. استدرت وأردت تفقد هذا الجهاز.. "وأشار الى جهاز الدواء المسكن الى جانبه".. لكني وقعت عن السطح، تلقتني يداك وأنقذتني! كان يروي حلمه، ويرسمه على دفتر ملاحظاتي. ثم كتب " حنان.. مخلوق من نور وماء". تمنيت لو أني أنقذته من السرطان المفترس!
قضيت يوما وليلة مع وليد في قسم الطوارئ. كان قد بدأ بالتلاشي. سهرنا وتحدثنا طويلا. دفتر ملاحظاتي كان دوما رفيقي لتدوين آخر ما يحدثني به. صباح اليوم التالي استيقظ وليد بنشاط واضح، ولديه رغبة في السير خارج المستشفى.. لم نكد نبتعد عن المدخل ستين مترا، طار نورس عن أحد السطوح، وحلق فوق رأسينا في حركة دائرية، صعودا وهبوطا، مطلقا زعيقه المزعج. بدا وكأنه ينادي على أصحابه الذين توافدوا، ومارسوا الطقس ذاته. يحلقون صعودا وهبوطا وبشكل دائري، وشكلوا أوركسترا من زعيق غريب. لم يكن الطقس عفويا.. بل كان يحمل رسالة ما.. قال وليد بدهشة هادئة: "إنهم يبكون" كنت أشاركه شعور القلق، ونذير الشؤم، رغم حبي للنوارس. أجبته بابتسامة: لا إنهم "مبتهجون"، كونك تسير متوازنا وبلا مساعدة! تحاورنا قليلا رغم أجواء الرعب من طيور جارحة تقصدنا، وعلى ارتفاع قريب من رأسينا.. طلب مني أن أسير بالاتجاه المعاكس.. سرنا في اتجاهين متعاكسين.. لكن الطيور تبعته.. مع الاستمرار بممارسة شعائرها! عدت إليه مسرعة.. وقلت إنها ليست مزحة.. وأسرعنا إلى داخل المستشفى! بعد يومين.. بدأ وليد يسرع في التلاشي! وكان لديه الوقت، ليروي الحادثة لصديقتنا هدى، ومقلدا نعيق النوارس! وكان لديه الوقت لنذهب لآخر مرة، إلى كافتيريا المستشفى، ويقوم بضيافتنا " الآيس كريم".. التقطت لنا الصديقة مجموعة كبيرة من الصور.. قال لها أرسليهم لي الآن.. هدى أرسلت الصور.. لكن وليد لم يكن لديه الوقت لتفقدها..
آخر فنجان قهوة.. كنا نشرب الكثيرمن القهوة. بعد مرضه، لم يعد وليد يحب القهوة، وإن استمر في تحضيرها. قبل الرحيل بأسبوعين، اتصل بي، ليقول إنه يرغب بفنجان قهوة. حضر مع قريبة له، وامتدت الجلسة حتى الساعة الواحدة والنصف صباحا. شرب خلالها فنجانين من القهوة، بعد قطيعة سنة.
آخر تواصل.. قبل الرحيل بأربعة أيام.. فقدنا التواصل معه. وصار له عالم مختلف عن عالمنا لكن لم نتوقف عن الحديث معه، فهو يسمعنا. وحين أردت المغادرة ليلا، سألته أن يعطيني إشارة، بفتح عينيه ان كان يسمعني.. فتح إحدى عينيه حتى النصف وأغمضها.. قبل غيابه بيومين.. كررت طلبي، حرك عينيه محاولا..
تلك الليلة القاسية، كانت مكرسة للصمت.. نام وليد مطمئنا في سريره. ونحن حوله بصمت، نهمس بكلمات متقطعة، كيف استعاد وجهه النضارة والبراءة. كنا ننتظر أن يحدثنا أي شيء. الببغاوان في قفصهما انكمشا وصمتا عن الثرثرة.. ننتظر كلمة أو حركة من النائم لكن بلا جدوى.. فنعود لنتبادل معه الصمت والسكون الجارح.. صمت يشبه ليلة شتائية نرويجية.
عزيزي وليد: حدثتني، أن الله سوف يستقبلك برحمته فهو رب المحبة والعطف والتسامح.. والآن، نستودعك الله.. وأتمنى أن تجد عنده، ما كنت تتمناه.. وليكن ذكرك مؤبدا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها