"والله في كتير أماكن مفتوحة بغزة، بإمكانهم إطلاق صواريخهم منها، والله حرام عما يطلقوها من جنب بيوتنا، رغم علمهم أنّ جيش الاحتلال سيضرب كل مكان تنطلق منه صواريخ بقنابل ارتجاجية تحول منازلنا إلى مساكن للأشباح".
كانت تلك كلمات مواطن فلسطيني نجت عائلته برحمة الله من قصف إسرائيلي كانت للتو قد رجعت إلى بيتها بعد تصليح أضرار بالغة نتجت عن قصف سابق، نتيجة سلوك خارق لكل قواعد المقاومة، وتأمين سلامة الحاضنة الشعبية.
لا ينتظر جيش الاحتلال هفواتنا، لينفذ جرائمه المخططة سلفا، لكنه لا يفوت فرصة لتبرير جرائمه ضد المدنيين الفلسطينيين إلا ويغتنمها بأسرع من سرعة الطائرة الحربية التي يعرف قائدها أن المدنيين لا يملكون حولا ولا قوة، وأن بيوتهم هي ملاجئ أطفالهم الفريدة لحظة لمعان شرارة المواجهات النارية، لكنه يعرف ويدرك تماما ما يفعل، فالهدف الأول بالنسبة لقادته في غرفة أركان العمليات العسكرية، وأوامر غرفة قيادة الحرب في المستوى السياسي "الكابينت" هي تدمير الحاضنة الشعبية ليس لحماس، كما قد يعتقد البعض، وإنما لفكرة المقاومة من أساسها، المقاومة المشروعة في المواثيق والقوانين الدولية، وإحراق فكرة التحرر الوطني والاستقلال، فلا يبقى منها إلا (السخام)، ودفع المظلومين إلى جب الإحباط واليأس، بعد إصابتهم بداء فقدان الأمل.
تفقد أي حركة مقاومة وطنية شرعيتها بالتدريج، وتحديدا التي تمارس الكفاح المسلح، ما لم تضع في المقام الأول حماية الحاضنة الشعبية، وترفع مصالح الشعب فوق كل اعتبار، وتعمل المستحيل لمنع الموت والدمار العبثي عن الأبرياء الآمنين.
وتفقد مبررات وجودها، ما لم تأخذ في الحسبان ضرورة تأمين وتعزيز وجود الفلسطيني على أرضه وصموده في بيته ومزرعته، لأن إعطاء الفرص للاحتلال لإنزال الخسائر بالقواعد الشعبية دون تحقيق هدف لصالح الجماهير يعتبر جهلا مطبقا مزدوجا، فهذا جهل بمبادئ ومسلكيات الكفاح المسلح والمقاومة الشعبية من ناحية، وجهل بعقيدة وتوجهات ونظريات الاحتلال الإسرائيلي العنصري القتالية من الجهة الأخرى.
يعمل أي احتلال على تأليب الجماهير على أي حركة تحرر وطنية مناضلة ضده، لكنه لا يفلح ولا يحقق نتائج إلا عندما تضج الجماهير بأخطاء منهج هذا الفصيل أو ذاك، وتبدأ برفض سلوكياته المتناقضة مع مصالح الجماهير، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار قدرة الاحتلال على النفاذ إلى جبهتنا الداخلية بالدعاية المضادة، وتفعيل الطابور الخامس، مستندا إلى شواهد من الواقع، فيضخمها لتبدو ككارثة.
لو كانت حماس حركة تحرر وطنية لأخذت بمنهج حماية الحاضنة الشعبية، ومنعت مسلحيها من التمركز قرب الأماكن السكنية، وسحبت ذرائع الاحتلال لتبرير جرائم الحرب التي ينفذها بحق المدنيين، مع تأكيدنا مرة ثانية أن الاحتلال الإسرائيلي يمضي في صراعه معنا وفق خطة إرهاب دولة منظم، لكن خبرته في تحويل الجريمة ضد الإنسانية، إلى حالة دفاع عن النفس في مسار، واستخدامه التكنولوجيا لإثبات مقولة (الدروع البشرية) تجعله متفوقا ومتقدما علينا في إقناع العالم في كثير من الحالات، وتحديدا عندما يقدم له البعض دماء أبناء البلد على طبق من ذهب !
لا يعزز صمود الحاضنة الشعبية، ويحضها على استمرار دورها كمصدر حياة للمقاتلين نيابة عنها سوى رؤية جماهيرها انجازات حقيقية على الأرض توازي تضحياتها، وهذا ما لم توفره حماس ومن معها من ثلاث حروب خرجت بعدها للناس بانتصارات وهمية، كان حصادها حوالي آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى، وكذلك آلاف البيوت والمنشآت الاقتصادية المدمرة.
هدف الاحتلال تدميرنا من الداخل والخارج، أي تدمير روح المقاومة في نفوسنا، وكسر إرادتنا، وتدمير بيوتنا (أوطاننا الصغيرة) وآمالنا، وقد يفلح بتحقيق هذا الهدف إذا سهلنا له موطئ قدم لجرائمه، لكن هذا الاحتلال المجرم يعلم تماما أن الشعب الفلسطيني لن تردعه قوة نارية مهما بلغت شدتها، وأن تضحياته في ميادين المواجهة المقررة بإجماع وطني، تزيده إصرارا على المضي بدرب النضال المشروع أخلاقيًّا وقانونيًّا، مع قيادة تعمل على استثمار التضحيات لصالح حريته واستقلاله وسيادته، فالحكمة، والعقلانية، والشجاعة، والوطنية تتجلى بقدرة القائد على تحقيق أهداف وطنية عظيمة دون أقل ما يمكن من الخسائر في الحاضنة الشعبية، فهذه الحاضنة شديدة الحساسية ستنفجر في وجه الضاغط عليها ما لم يتعامل معها بمعيار الضمير الوطني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها