خاص مجلة "القدس"العدد 343 تشرين الثاني 2017/ بقلم: أحمد النداف

لاشكّ بأنّ إعلان رئيس الحكومة اللبنانية سعد الدين الحريري لاستقالته في هذا الوقت بالذات  وبالطريقة التي أعلن عنها، يدخل لبنان في مرحلة من الضبابية السياسية انطلاقا من شكلها ومضمونها، ونتيجة تأثيراتها الخارجية والداخلية والتي لن تقف بالتأكيد عند الحدود السياسية. فمن ناحية الشكل تُعتبر بأن لها إرتباطا إقليمياً من خلال إعلانها من المملكة العربية السعودية وعبر بثها عبر وسيلتها بشكل منفرد، وهو ما يعني دخولها في سياق الأزمة المتصاعدة بين المملكة العربية السعودية وإيران والتي بلغت ذروتها في نجاح المملكة العربية السعودية مدعومة من الدول الخليجية العربية في عقد اجتماع لوزراء الخارجية العرب في مقر الجامعة العربية وبشكل إستثنائي وعلى جدول أعماله بند وحيد، هو  إدانة الممارسات الإيرانية في المنطقة العربية وإتهامها بالتدخل في شؤونها وخصوصاً في لبنان والعراق وسوريا واليمن، وإستناداً الى تصريحات للرئيس الايراني روحاني الذي اعتبر فيها أنّ لدى إيران تأثير على هذه البلدان، وأنّها لا تستطيع اتخاذ أي قرار لا يُراعي المصالح الايرانية، كما أنّ الأزمة بين الرياض وإيران تتجلى في أكثر من جبهة ومحور والتي بلغت حدتها في إطلاق الحوثيين صاروخاً باليستياً باتجاه مطار الملك خالد في الرياض العاصمة السعودية التي أكّدت أنّه من صنع إيراني هُرِّب عبر الموانئ البحرية .
وفي هذا السياق أتى انعقاد مجلس وزراء الخارجية العرب بناءً على طلب من المملكة العربية بزيارة الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط الى لبنان لمقابلة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، والذي أعلن فور وصوله إلى مطار بيروت الدولي، بأنّ الدول العربية تتفهم وتراعي لبنان كدولة وتريد تجنيبه أو اقحامه في أي خلاف، كما قدّم شرحاً للظروف التي أحاطت باجتماع الجامعة العربية والقرار الصادر عنها، والذي ردّ عليه رئيس الجمهورية بأنّ لبنان ليس مسؤولاً عن الصراعات العربية أوالاقليمية التي تشهدها بعض الدول العربية، وبالتالي فإنّ لبنان لن يقبل الإيحاء بأنّ الحكومة اللبنانية شريكة في أعمال إرهابية، وإنّ الموقف الذي أعلنه مندوب لبنان يمثل القرار  اللبناني الرسمي. كما ذكر بأنّ لبنان واجه الاعتداءات الإسرائيلية لوحده منذ العام 78 واستطاع تحرير أرضه وإنّ الاعتداءات عليه لا تزال مستمرة ومن حقه استخدام كلَّ الوسائل المتاحة.  
وهذا الأمر اضطر الأمين العام للجامعة العربية إلى تكرار إثر زيارته لرئيس مجلس النّواب  بأنّ لا أحد يتهم الحكومة اللبنانية بالإرهاب وإنّ الإشارة تشير إلى أحد شركاء الحكم معتبراً بأنّه وسيلة للمطالبة بالتحدث معه كشريك في السّلطة للضغط عليه لضبط إيقاعه في المنطقة العربية. وحالياً ومن خلال قراءة الواقع السياسي اللبناني الداخلي يبدو أنّ غالبية القوى السياسية تعيش في حالة من الحيرة في كيفية التعاطي مع الواقع الجديد، انطلاقا من معالجة العاصفة السياسية التي أحدثتها استقالة الرئيس الحريري وتداعياتها التي لم تنتهِ بعد وأنّ فصولها ستُكتشف في قادم الأيام.
هذا من ناحية الشكل أمّا لجهة مضمون الاستقالة فإنّها حملت وجهين الأول تجلى في توجيه الاتهام لحزب الله لمناهضة سياسة الحكومة اللبنانية باتباع سياسة النأي بالنفس، وبالتالي مخالفة البيان الوزاري في هذا الخصوص، والذي يعتبر جزءاً لا يتجزأ من الاتفاق السياسي الذي أنهى بموجبه حالة الفراغ الرئاسي والذي أدّى كذلك إلى تشكيل الحكومة الجديدة التي يرأسها الحريري نفسه، بالإضافة إلى التوافق والاتفاق على اصدار قانون انتخاب جديد قائم على أساس النسبية، وإقرار الموازنة العامة ولأول مرة منذ اكثر من 12 عاماً .
كما يزداد الارتباك السياسي الداخلي اللبناني المترافق مع الضبابية التي تحملها المرحلة المقبلة والتي بات معها أكثر القوى السياسية تشعر بأنّ لا أمل في تأليف حكومة جديدة، في حال أصرّ الرئيس الحريري على الاستقالة،  وحتى لو أُعيد تكليفه أو بقاؤه في دائرة التكليف دون التأليف وخصوصاً اذا تمسّك الحريري باستبعاد حزب الله من تشكيلتها، وهو أمر سيرفضه حزب الله بكل تأكيد إلى جانب رفض رئيس الجمهورية بطبيعة الحال .
وعليه فإنّ الحكومة الحاليّة ستتحول إلى حكومة تصريف أعمال مهمتها إجراء الانتخابات البرلمانية القادمة وتمريرها، والتي ستؤدي إلى تحالفات جديدة وقوى وأحجام مختلفة عمّا هو الواقع عليه الآن. وبالتالي فإنّ القوى السياسية ستشهد خلطة تحالفات جديدة قد تعيد الاصطفافات الأولى التي بدا أنها اختلطت أوراقها خلال العام الماضي والتي كانت متجسدة في تياري 8 و14 آذار والعودة بها إلى ما كانت عليه سابقاً من تناقض وتنافر، وهذا يعني سقوط تحالفات قد يكون أولها تحالف التيار الوطني الحر وتيار المستقبل الذي أنتج التسوية التاريخية قبل عام تقريباً والآتي سيكون إمّا واقع الانفراط من جديد وشبه النهائي، كما ستعيد التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية إلى موقع النقيضين مع العلم أنّ الأحوال بينهما قد ساءت في المدّة الأخيرة وحتى قبيل إعلان الحريري لاستقالته ولعلّ الخلافات حول ملف التعيينات في الإدارات العامة والمناقلات الدبلوماسية وكذلك الخلاف حول ملف الكهرباء ومناقصات الطاقة التي يصرّ عليها الوزير سيزار أبي خليل بالشكل المطروح وهو  المنتمي للتيار الوطني الحر الذي يرأسه رئيس الجمهورية، وكل ذلك يعني أنّ كثيراً من القوى ستجد  نفسها في مواقع ليست فيها الآن في ظل التسوية التاريخية المنهارة فعلاً.
وفي مقابل التطورات الداخلية التي ثبت أنّها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتطورات الإقليمية خصوصاً بعد التطورات المتسارعة في العراق وسوريا، والإنجازات في عملية دحر داعش التي باتت على ما يبدو أنّها تعيش أيامها الأخيرة في البلدين، وكذلك التحولات الإقليمية المرتبطة بتحولات دولية يبدو أنّها هي الأخرى ذاهبة نحو التصعيد وعدم التوافق، في ظلّ الخلاف الروسي - الأميركي المتصاعد بدءاً من الملف الكوري وصولاً إلى الوضع الإقليمي في المنطقة العربية ، وهي أزمة يخشى الكثير من أنّ تكون ذاهبة إلى مواجهة كبرى مقبلة لا محالة، لكن لا أحد يعلم شكّلها ولا كيف ستبدأ ولا كيف ستنتهي، خصوصاً وأنّ الموقف السعودي والعربي تجاه إيران و(اذرعتها) ومنها حزب الله يأخذ منحى تصاعدياً وهو ما ظهر خلال وبعد اجتماع القاهرة، والذي تقابله ايران بأنّها ثابتة على مواقفها وتصرفاتها في لبنان وسوريا والعراق واليمن والمنطقة ككل وتحديداً أكثر في الخليج العربي .
هذا من دون أن نستثني ما قد تقوم به إسرائيل التي  يلوّح بعض قادتها العسكريين الأمنيين بعدم استبعاد أي خيار أمامها بما في ذلك الخيار العسكري الذي ذهب بعض المراقبين بأنّه لن يكون شبيهاً بحرب تموز العام 2006  إلّا أنّه سيكون في بقعة جغرافية مختلفة قد تكون المثلّث السوري اللبناني المتاخم لفلسطين المحتلة لجهة الجولان والقنيطرة وصولاً إلى الحدود مع الأردن، الذي سيكون لإسرائيل حساباتها الخاصة فيها بانتظار الموافقة الأميركية والرعاية والدعم العربي لها.