خاص مجلة "القدس"العدد 343 تشرين الثاني 2017/ بقلم: محمد سرور
تحتاج الوحدة الوطنية الفلسطينية إلى إعادة تذكير بنتائج الانقسام الذي أحدثه انقلاب حماس على الشرعية الوطنية في العام 2007، تذكير بطعم المحبة، وبطعم حفظ الدروس التي نتضرّع إلى الله أن نحفظها وتبقى في أعناقنا كالامانة الغالية..
أولا: انقلبت على حرمة الدم الفلسطيني- الفلسطيني، وأعطت لنفسها حق القتل والسحل وبتر الأطراف والاعدام والسجن بحق مناضلين مشهود لهم في ميدان المواجهة مع العدو. مما صعّب المرحلة على مدى السنين التي تلت، وأعطت للعدو والخبيث من قادة الدول مساحة واسعة للتلاعب والتجاهل والمتاجرة والاستعمال الاقليمي والمعسكراتي في زمن الاقطاب والمعسكرات.
ثانيا- الانقلاب جعل الشعب الفلسطيني رهينة على المستويين السياسي والاقتصادي لدى فئة قليلة من المستفيدين، الذين جعلوا من أوليات حاجات المواطن الغزي أداة ابتزاز ومساومة طوال ما يزيد على العشرة أعوام متواصلة.
ثالثا: تسبب بشرخٍ عميق في النسيج الوطني والاجتماعي، لم ياتِ اتفاق المصالحة على كلفته ومخاطره. بل بالعكس، تريد حركة المقاومة الاسلامية- حماس متكافأة القتلة والملطخة أيديهم بدم اهلهم وأخوتهم. كان الهجوم الدائم على "سلطة أوسلو" وادانتها بالتخوين والتنسيق مع أجهزة امن الاحتلال يعفي حماس من جرائم كبرى ارتكبتها بحق أبناء حركة فتح والسلطة الوطنية في القطاع، أو على الاقل يشكل السبب الموازي لتلك الجرائم، وبالتالي تنشأ معادلة عفا الله عما مضى.
رابعا: يدين وبشكل مباشر كل المشككين والسائلين عن ضمانات حول دور قوات الامن الوطني. فالسؤال عن الضمانات يجب أن تطرحه تلك القوات، لأنه لم يسبق لها أن لوَّثت يديها بالدم الفلسطيني، ولم تمارس الغدر بحق أهلها وأبناء شعبها. ففي حمأة الانقلاب وفي لحظاته الدموية القاتلة رفضت هذه الاجهزة إطلاق النار، وما تلا ذلك من ظروف على امتداد فترة الانقلاب المشؤوم لم تر حركة فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية سوى المصالحة هدفا وحيدا وساميا لرأب الصدع واعادة اللحمة إلى الكيان الجمعي للتنوع الوطني، بكل أدواته وقواه الحيّة.
خامسًا، ومنذ اللحظة الاولى لاعلان المصالحة، أعلنت حركة حماس عدم مسؤوليتها أمام الشعب الفلسطيني في غزة، وكأنها كانت بانتظار تلك اللحظة. مع أن الاعلان بحد ذاته شكل نقطة إيجابية ونقلة نوعية باتجاه أن تأخذ حكومة الوحدة الوطنية دورها الطبيعي تجاه الشعب الذي تمثله.
سادسًا، في لقاء لقناة الميادين مع الناطق باسم قوات الامن الوطني الفلسطيني اللواء عدنان الضميري شدّد خلاله على ضرورة وضع مصلحة الوطن وامن المواطن الفلسطيني فوق مصلحة الاحزاب والقوى السياسية، وأعلن أن بين قوات الامن والشعب صلة دم لا يمكن العبث بها. تلك الرسالة المطمئنة تشكل رسالة هامة لمجتمع غزة، بحيث يتحرّر هذا المجتمع من سلطة قوة سياسية متفرّدة وجائرة. فالتخلص من قوانين وثقافة وميثاق حركة حماس الاجتماعي والسياسي أصبح ضرورة، أي أن القيود الصارمة التي فرضت بقوة "نموذج حماس" في القيادة يجب أن يصبح وراء ظهر الناس، مع أن ذلك لا يعني أبدا الخروج على العادات والتقاليد المتبعة من قبل غالبية المجتمع الغزي.
سابعًا: لقد شهدت حماس قبل غيرها التظاهرة فوق المليونية التي خرجت لاحياء الذكرى الثالثة عشرة لاستشهاد الرئيس المؤسس والقائد التاريخي لمسيرة الشعب الفلسطيني – أعني الشهيد ياسر عرفات. خروج الجماهير الغزية، في يوم لم تقفل فيه المدارس، ولم يعلن فيه الاضراب العام بهذه الكثافة غير المعهودة تشكّل محطة مناسبة لدرس آليات الحكم التي كانت متبعة، وحجم الاضطهاد الذي لقيه المواطن، وقوة تمثيل حركة فتح- التي اعتبرها العديد من قادة المرحلة الحمساويين: من الماضي. فتح كالفينيق تحترق وتترمّد ثم تنهض... ليكن الدرس بليغا وعميقا، لدرجة وجوب حفظه جيدا.
كان لتلك المحطة، محطة إحياء يوم الشهيد ياسر عرفات درس برأسين: الأول وبلا أية مبالغة هو استفتاء للشرعية الوطنية كبديل نموذجي لشرعية سلطة الميليشيا، واستفتاء بمفعول عكسي وصارخ ضد سلطة حماس... لنقل كان كرنفالا، رغم المناسبة الحزينة- للاحتفال بالخلاص، نعم احتفال له دلالة الخلاص والأمل بالحياة الحرة والكريمة.
ثامنًا: غزّة كعهدنا بها، وفية حتى اقاصي الوفاء. فرغم كل ما أصابها من إفقار وتجويع وإذلال وخنق لارادة الحياة فيها أبت إلا أن تعلن عن انتسابها لفلسطين الواحدة الموحدة. وعن أنها طليعية العطاء والانتماء، لا تهزمها جرائم العدو وسياط ذوي القربى. خروج غزة في ذلك اليوم المشهود سيبقى نقطة مضيئة في تاريخ كبريائها الوطني وإيمانها الراسخ بمسيرة ياسر عرفات والأمناء على دربه وإرثه الذي لا مجال للمساومة عليه.
وبعد كل ما سبق، سوف تكون كلفة الوحدة عالية، لانها تحتاج إلى النوايا الصارمة والايمان، وإلى الارادة التي لا مجال لأن تهتزَّ أو تنحرف عن صراط الشعب والقضية والمصالح الوطنية العليا. كذلك يجب أن يفكّر الجميع بصوت عال، بالتشاور والتحاور اللازمين لمساعدة القطاع المنكوب، ومنحه أهمّية لا تغيب عن اهتمام حكومة الوحدة ولا عن كل حريص على بلسمة جراح الذين نكبتهم الظروف مرات ومرات وبقوا وحدهم صامدين.
إيلاء غزّة ما تستحق من أهمّية، رغم الذي سبق من اهتمام، يعبد طريق عودتها إلى كنف الوطن والتلاحم الوطني والارتباط المصيري الذي هزّته ظروف الماضي ولم يسقط.
بالمناسبة: منح الوضع الجديد للعلاقات الفلسطينية- الفلسطينية طاقة إيجابية عالية لمسار تجفيف التوترات والاوضاع غير السويّة على مستوى مخيمات لبنان، حيث بدأ عهد جديد من الشراكة الأولية التي تحسم نموذجيتها تحسس البعض للمسؤولية ولضرورة أن ينعم أبناء المخيمات الفلسطينية بحد معقول من الاستقرار والطمأنينة. لن نهمل مسألة هزيمة المشروع التكفيري على مستوى المنطقة والانكسار الذي أصاب المهووسين والظلاميين منه في بعض زوايا مخيم عين الحلوة. لكن مسار العلاقات الوطنية الداخلية يسهم إلى حد بعيد في تفكيك خلايا الارهاب المتبقية بكل الوسائل المتاحة، والتي اتسعت دائرة خياراتها الان.
كلما نأى الجانب الفلسطيني عن تجاذبات المنطقة وقوى صراعها كلما بقي الفلسطينيون بمنأى عن الاستهداف والضغوط غير الضرورية. يكفي هذا الشعب أنه في مواجهة تاريخية غير متكافئة مع غاصب لا يرعى حرمة ولا يحترم عهدا، مدعومٍ من دول كبرى تهيمن على القرار الدولي وتمنع تحقيق العدالة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. فيما هي بالمقابل ترعى وتغض النظر عن فرض دولة الاحتلال واقع احتلالها من خلال قضمها المزيد من الاراضي التي تبعد الامل بالاستقلال وتقرير المصير للشعب الفلسطيني.
لن تنفع القضيّة أية دولة تحمل أجندتها الاستثمارية الخاصة، وعليه تنجح حماس بالعودة إلى البيت الفلسطيني حين تتخفف من ثقافة البعد العالمي لجماعة الاخوان المسلمين، وكلما ابتعدت عن الدول التي طالما ادّعت باهتمامها بفلسطين وشعبها، فيما فضح الواقع أهدافها ومسار سياستها الضالة والمضللة.
الوحدة الوطنية الفلسطينية هي الاستثمار الأنجع والأقوى في وجه جبروت المحتل وقطعان مستوطنيه الفالتة من أي رادع أو وازع إنساني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها