في كلِّ عصرٍ من عصور السقوط والانحطاط، تظهر أصوات وأبواق وطبول جوفاء، تُشكِّك في القِيَم وفي الرموز بل يصل في بعض الأحيان تماديها إلى التشكيك في البديهيات والمسلَّمات العقدية للأمّة، هذه الأصوات الخسيسة في حقيقة أمرها لا تُعبّر إلّا عن نفسها ولا تعكس رأيًا عامًّا للأُمّة، كما تطالعنا هذه الأيام أصوات مقرفة في الرِّدة والانكفاء على شوفينية مقيتة مدمّرة ومعهِّرة لقِيَم الأُمّة ورموزها وعقائدها، تحت ذرائعيّةٍ بائسةٍ، تُحمِّلُ هذه القِيَم وهذه الرموز بل حتى العقيدة الدينية والثقافية المتوارثة ما هي عليه الأمة من تخلف وسقوط وانحطاط، محاولةً بذلك استرضاء الأعداء والزحف على بطونها لتستجدي عطفهم وحنانهم وترجو النصرة منهم للخروج من مأزقها التاريخي وتخلفها الاقتصادي وانحطاطها العقدي والقيمي.

لم أتفاجأ ولم أصدم من هذه الفئة المارقة، حيث كشفت عن نفسها وسقوطها، بل فُرِجَتْ أساريري بسقوط الأقنعة عن وجوهها وباتت سافرة، بقبحها وسوء عورتها، فهم ليسوا مثقفين، وليسوا أصحاب رأي، وإنَّما هم يمثلون حثالة بشرية، تظن أنها تقفز على السطح لتجد لها مكانًا تحت مظلة الأعداء، وتتبارى عناصر هذه الفئة بالتنكر لتاريخ الأمة ولقيمها ولمعتقداتها، وتصبح الخيانة والمداهنة والتماهي مع الأعداء وأهدافهم شطارة ومسايرة للواقع لم تُمليها الضرورة لديهم وإنَّما الاقتناع أنَّ الأمّة كانت على خطأ، وأنَّ العدو كان محقاً وعلى صواب في كل ما فعله بالأمة من استعمار واحتلال وتنكيل بشعوبها، هل بعد هذا السقوط من سقوط، كيف لمثقّف عربي، كنا نحسبه مثقفاً وصاحب رأي، أن يشكك في مشروعية نضال الأمة من أجل التحرر والاستقلال والسيادة، كيف لمثقف عربي يشكك في مشروعية نضال الشعب الفلسطيني في وجه الكيان الصهيوني مغتصب الأرض والمقدسات والسيادة، كيف يمكن أن يكون هذا المثقف ممن يشهد الشهادتين ويُحسَب على لغة الضاد وعلى أمة القرآن العربي، كيف ينظر إلى وجهه في المرآة، دون أن يبصق على نفسه؟!

هكذا يكون السقوط في الهاوية التي ليس لها قاع عندما يأتي مثقف وصاحب رأي ويروج إلى أن الأقصى المبارك هو في ضواحي مكة المكرمة والطائف وليس في القدس، وأن الأقصى المبارك في القدس (هو الهيكل) وهو لا يمثل شيء للمسلمين وإنما هو مقدس لليهود؟!

كيف لمثقف يأسف على استمرار حالة العداء بين العرب والكيان الصهيوني طيلة هذه العقود، وينتقد ويسفه من يعتبر هذا الكيان عدواً، ويعلن انبهاره به وبحضارته وسمو أخلاقه، وقيمه الحديثة، ويسبغ عليه كل فضيلة تنقص العرب؟!

كيف لمثقف يدعي ويشكك بمشروعية النضال من أجل القدس والأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين، ويعتبرها شرعية مشكوك فيها وكاذبة وأنها مجردُ شكل من أشكال التجارة بعواطف المؤمنين والمسلمين، ويبقى محسوباً على الصف الوطني أو على صف المؤمنين والمسلمين؟!

إنَّ هذا الانحطاط في الموقف والرؤيا، أوجَبَ علينا التحذير من هذه الفئة الساقطة المخذِلة، والتي هي بحق باتت طابوراً خامساً، لتبرير الارتماء تحت أقدام الأعداء، والتنازل عن أقدس حقوق الأمة في مقدساتها وفي أوطانها، فمن يتنازل عن القدس سوف يتنازل عن مكة والمدينة والقاهرة ودمشق وبغداد والرباط وطرابلس وتونس والجزائر، وسوف يصفح عن الاستعمار القديم والجديد ويستدعي الاستعمار لإحكام قبضته على بلاد العرب والمسلمين ثانية!

نعم من يشكك في قيم وثقافة وعقيدة الأمة ويشكك في عدالة قضاياها، وفي مقدمتها ((قضية القدس وفلسطين)) لقد هانت عليه نفسه، فليسلم نفسه للأعداء، يعبثون فيه كما يشاء، ولينعم بحضارتهم وثقافتهم، وليعلن انسحابه من الأمة ومن قيمها وتراثها وثقافتها وعقائدها...!

فليفرط من يفرط عن القدس وفلسطين، لكن الشعب الفلسطيني لن يتخلّى ولن يفرِّط بوطنه وعاصمته درة التاج مدينة القدس، وقبل أن تكون للقدس ولفلسطين مكانتهما العقائدية والدينية والثقافية، إنها الجغرافيا وطن الشعب الفلسطيني، الذي ليس له وطن بديل عنه، وللقدس مكانتها ولفلسطين بركتها، المثبتة بحكم التنزيل ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع العليم))، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، والشعب الفلسطيني سوف يبقى مؤمناً صامداً كالطود في وجه العدوان، كما في وجه المتساقطين ودون ذكر للأسماء فهم يعرفون أنفسهم، (وجميلتهم على حالهم)، (ويا جبل ما يهزك ريح)، لن يضروا فلسطين وشعبها، فالأمة بسوادها الأعظم ومفكريها ومثقفيها الحقيقيين هم مع القدس ومع فلسطين وشعبها ومع القيم النبيلة والعقيدة الصافية السمحاء ومع العهدة العمرية، صامدون في وجه الطوفان والعدوان كما في وجه التهافت والخسة والنذالة والتشكيك في مشروعية كفاح الأمة من أجل الحرية، والنهوض بها ودحر الأعداء، مؤكدين صدق مشروعية النضال للأمة جمعاء من أجل القدس ومن أجل فلسطين، ولن يسقط حق الشعب الفلسطيني ومعه الأمة العربية بمسلميها ومسيحييها في القدس وفي فلسطين، في الأقصى وفي القيامة.