في الوقت الذي عاش الغزيون لحظات من الابتهاج يوم أمس بعد التوصل لاتفاق على وقف إطلاق النار، أصر الاحتلال على تعكير صفوهم ومواصلة إلقاء الحمم، وفتح أبواب الجحيم عليهم، حيث عاشت غزة ليلة ساخنة مؤلمة بكل تفاصيلها، وفي الخليل المدينة التي تبعد عن مسافة مئة كيلو متر من حدود قطاع غزة الشمالية يقولون أنهم سمعوا دوي الانفجارات للقنابل شديدة الإنفجار وذات الأوزان العالية على ما يبدو بشكل واضح واهتزت لصوتها أرجاء المدينة، وحتى اللحظة التي أسطر فيها كتابة هذا المقال بلغ عدد الشهداء اليوم ثلاث وثمانون شهيدا، وأكثر من مئتين جريج وما زال العشرات تحت الأنقاض. صحيح أنه بموجب هذا الاتفاق على وقف إطلاق النار، يفترض أن يتم البدء في تنفيذه اعتبارًا من ظهيرة يوم الأحد القادم 19.1.2025.

ولا يوجد جديد في السياسة الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، دائرة الاستهداف تصيب المدنيين بشكل واسع وخاصة الأطفال والنساء والشيوخ. وقد استهدفت البيوت التي هدمتها على رؤوس ساكنيها، كما استهدفت المستشفيات ومنها الإندونيسي وأحدثت إجابات خطيرة بين صفوف المواطنين الذين اتخذوا المستشفيات مراكز ايواء. كان من المتوقع أن تبدي إسرائيل لحظة الاتفاق حسن النوايا للانفراج ووقف إطلاق النار، ولأن هذا لم يحدث، وما حدث هو المضي قدمًا في السياسة العدوانية على غزة وشعبنا الفلسطيني هناك وارتقاء الشهداء وسقوط الجرحى.

المجتمع الإسرائيلي يبدو أنه منقسم على نفسه من صفقة التبادل، حيث تجد المسيرات المناوئة من أنصار بن غفير وسيمورتش يطالبون المضي قدمًا في المحرقة التي ترتكب بحق الفلسطينين في غزة ودعواتهم إلى رئيس الحكومة بأن يستكمل المهمة في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير لمن تبقى من الغزيين التي تدور رحاها هناك. وعلى النقيض من ذلك نجد أن مسيرات أنصار إتمام الصفقة وهم على ما يبدو الأغلبية في الشارع الإسرائيلي تطالب باتمام عقد الصفقة ووقف القتال واستعادة الرهائن وهم من المعارضة وذوي المخطوفين.

الحالة التي تتعامل فيها إسرائيل باستعمال القوة الهائلة المفرطة للنيران في عدوانها يعبر عن صورة من صور الجنون، والفوقية، واللانسانية لأحداث ذاكرة لن تنساها الأجيال لعقود طويلة. مما يبعث على الأسى والألم، واستمرار لجرائم الحرب التي يتم ارتكابها في غزة. حقيقةً أنا لا أعرف إذا كانت إسرائيل بقيادتها ومفكريها وفلاسفتها إن هذا الإرث هو ما تريده تريد أن تحدثه في ذاكرة الشعب الفلسطيني للمستقبل، ولا تترك مجالاً ولو للحظات أن الإنسانية يمكن لها أن تنتصر على تلك الرغبة الجامحة بالقتل والتدمير.

تحت مسمى حق إسرائيل في الدفاع عن النفس التي يتم التعامل فيها مع قطاع غزة في هذه الحرب والذي منحه العالم لإسرائيل يتم ارتكاب مختلف أنواع جرائم الحرب، وهنا السؤال الكبير الذي يبرز هل يحق لإسرائيل عند استعمالها ذلك المسمى في الحق بالدفاع عن النفس إفناء الآخر؟. لكن للأسف لقد شهدنا في العصر الحديث حروبًا دموية، فهذا هو الواقع الذي يحدث عندما تحدث الحروب، لا قيمة للإنسانية والإنسان والضحايا من المدنيين بمئات الألوف، وتمر هذه الجرائم دون حساب. بل وأكثر من ذلك يتم الاعتراض على محاكمة الجناة في المحاكم الدولية التي أنشأتها الأمم المتحدة من القوى المتنفذة في العالم. إذن لمن أنشأت هذه المحاكم، فقط لجلب العالم الثاني، أو من هم خارج المنظومة المتنفذة، وتبقى عدالة السماء عندما تسقط العدالة في الأرض.

الاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، يترك المجال مفتوحًا ولا ينتهي الحل المرضي للفلسطينين، مما يسبب في خلق صراعات جديدة في المنطقة لن تتوقف ولن تهدء إلا بإيجاد الحل العادل للقضية الفلسطينية وعدم تجاوزها، ستبقى دائمًا المنطقة قابلة للتوتر طالما أن القضية لم تجد حلاً يرضي الشعب الفلسطيني. كانت هناك فرصة، لمنح الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير، لو أن هناك صيغة داخلية فلسطينية مختلفة عما هو موجود اليوم، والجميع في إطارٍ واحد تحت سقف "م.ت.ف"، البيت الفلسطيني الجامع وخلصنا إلى واقع يفضي إلى أن ينول الشعب الفلسطيني استعادة حقوقه المشروعة بعد أن جرت تلك الدماء والضحايا من أبناء الشعب الفلسطيني، وأعتقد أن العالم كله في هذه اللحظة كان جاهزًا لوضع ملف القضية الفلسطينية على شاشات الحل التي تعطي الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. لقد كان هناك حقًا فرصة تاريخية لإنهاء الملف الفلسطيني بكافة جوانبه مع الاحتلال الإسرائيلي وعدم تجزئة الملف بين الضفة الغربية وغزة، لكن بسبب الوضع الداخلي الفلسطيني والانقسام تعذر ذلك، هكذا هي القضايا في حالة التشرذم والتشتت تنعكس عليها حالة الانقسام ولا يُبَتُ فيها لنفس السبب ويبقى الوطن والمواطن معلقًا.