إن مفهومَي النصر والهزيمة في الصراعات السياسية والعسكرية يتجاوزان البُعد المادي المحض إلى بُعد أكثر شمولاً، يأخذ في الاعتبار الجوانب النفسية، الاجتماعية، الثقافية، والسياسية، بالإضافة إلى الجوانب الأمنية والعسكرية الأخرى.
لذلك، فإن تقييم الصراعات من منظور هذين المفهومين(النصر  والهزيمة )  يتطلب تحليلًا متعدد الأبعاد يأخذ في الاعتبار كافة  العناصر المادية وغير المادية التي تُشكِّل جوهر كل من  النصر والهزيمة.

- النصر والهزيمة: مفاهيم ومعايير:

النصر: في حقل حل النزاعات والصراعات، لا يُقاس بالضرورة بعدد وكمية المكاسب المادية أو الإنجازات العسكرية من قال أن الدمار قد تحدثه الحروب فقط، بل يتطلب وجود مجموعة أخرى من العناصر التي تشير إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية لكل طرف  من أطراف النزاع والصراع، والرؤى طويلة المدى، ومن بين هذه العناصر:

1. السيطرة السياسية: تحقيق الأهداف السياسية التي سعى ويهدف لها الطرف المنتصر.

2. الشرعية والاعتراف: تعزيز الشرعية الداخلية والخارجية والتأييد الدولي للنتائج التي حققها الطرف المنتصر.

3. الثبات والحفاظ على الهوية الثقافية: قدرة المجتمع على ثباته وحماية هويته وقيمه وثقافته في وجه محاولات الطمس أو الهيمنة من قبل الطرف الآخر.

4. ثبات إرادة المقاومة: استمرار الإرادة الشعبية في الدفاع عن الحقوق الثابتة، حتى في ظل تكبدها   الخسائر المادية المتعددة.

5. التأثير النفسي: قدرة أحد الأطراف على خلق شعور بالإحباط أو الاستسلام لدى الطرف الآخر.

أما الهزيمة: فهي ليست مجرد خسائر مادية، بل تشمل فشل تحقيق الأهداف الاستراتيجية، انهيار الإرادة الشعبية، وفقدان الشرعية أو القدرة على مواصلة المقاومة.

- على ضوء ذلك سنحاول أن نطبق هذه المعايير والمفاهيم من حيث النصر أو الهزيمة  على
الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي:

الشعب الفلسطيني لم ينهزم بعد: رغم المعاناة المستمرة التي يواجهها الشعب الفلسطيني، سواء من خلال الاحتلال المباشر، الإجتياحات، والإعتقالات، والحصار، والتهجير القسري والطوعي، أو الانتهاكات المتكررة، إلا أن الشعب الفلسطيني لم يصل إلى مرحلة الهزيمة، وفق التعريفات السابقة، بل بقي صامدًا ومتجذرًا في وطنه، كاسرًا خطط العدو الصهيوني في القضاء على وجوده، وعلى  استمرار  عناصر الصمود والثبات والمقاومة، والتمسك بحقوقه المشروعة غيرالقابلة للتصرف، مؤكدًا ذلك من خلال ما يلي:

1. الإرادة الشعبية: ظل الشعب الفلسطيني مُتمسكًا بحقوقه التاريخية، مُواصلاً نضاله بأشكال متعددة، بدءًا من المقاومة المسلحة، مرورًا بالمقاومة الشعبية، وصولاً إلى الجهود السياسية والدبلوماسية والقانونية على المستوى الدولي.

2. الحفاظ على الهوية الوطنية: لم تنجح محاولات الاحتلال في طمس الهوية الفلسطينية، بل على العكس، باتت الهوية الفلسطينية أكثر  وضوخا وتماسكًا وانتشارًا عالميًا، وفشلت كافة محاولات طمس الهوية الوطنية الفلسطينية قديمًا وحديثًا  وآخذة في التجذر والرسوخ.

3. الشرعية الدولية: رغم محاولات الاحتلال فرض الأمر الواقع، إلا أن المجتمع العالمي قد اعترف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، بما في ذلك الاعتراف بدولة فلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة، ما يعزز وجود شعبنا وصمودهم  في مواجهة الاحتلال وتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني المشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وفق قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.

- إسرائيل والصهيونية لم تنتصر بعد:

رغم الإنجازات المادية التي حققتها الحركة الصهيونية منذ تأسيسها عام 1948، فإن هذه الإنجازات لم تُترجم إلى نصر حقيقي ومستدام للإعتبارات التالية:

1. غياب الاستقرار: لم تتمكن إسرائيل من تحقيق الاستقرار الداخلي  فهي تعيش حالة قلق وجودي  مستمر ومصاحب لنشأتها وتكوينها الشاذ، كما تعيش حالة قلق وعدم استقرار  إقليمي، حيث لا تزال تواجه مقاومة مستمرة من الفلسطينيين أولاً، وتوترًا مستمرًا مع دول الجوار ثانيًا، رغم الإتفاقيات التي وقعتها مع البعض من الدول العربية، التي لم تستطيع إلغاء حالة الشعور بالرفض والعداء من قبل شعوب تلك الدول.

2. فقدان الشرعية الأخلاقية: بسبب ممارسة الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان والقوانين الدولية ورفضها تنفيذ قرارات الشرعية الدولية  بشأن تسوية النزاع والصراع الدائر، قد أدت إلى تراجع الدعم الشعبي العالمي لإسرائيل، خاصةً مع تزايد حملات المقاطعة الدولية لها، نتيجة تلك السياسات والممارسات العدوانيةظ

3. الفشل في تحقيق الاعتراف الكامل بها: رغم الاعتراف بإسرائيل كدولة مشروطة العضوية في الأمم المتحدة، بشرط ضرورة احترامها لقرارات الشرعية الدولية، خاصة القراراين 181 لسنة 1947  والقرار 194 لسنة 1948، والخاصين بتقسيم فلسطين إلى دولتين، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين، إضافة إلى رفض الفلسطينيين والشعوب العربية الاعتراف بشرعية الاحتلال  للأراضي الفلسطينية والعربية، يجعل النصر الإسرائيلي مأزومًا و منقوصًا.

4. الأزمة الديمغرافية: يظل العامل الديموغرافي يمثل تهديدًا كبيرًا ومقلقًا لإسرائيل، خاصةً مع توقعات مؤكدة بأن يتجاوز عدد الفلسطينيين عدد الإسرائيليين في فلسطين التاريخية، ما يجعل من إسرائيل كيانًا عنصريًا احلاليًا فاشلاً لا محالة.

- تحليل الحالة الراهنة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي:

بناءً على ما تقدم من المؤشرات المذكورة أعلاه، يمكن القول إن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لا يزال مفتوحًا على كل الاحتمالات.
الشعب الفلسطيني لم يُهزم لأنه لا يزال يحتفظ بعناصر الصمود وروح الثبات والمقاومة، بينما لم تنتصر الصهيونية لأنها لم تستطع القضاء على الفلسطينيين قتلاً ونفيًا وتهجيرًا وإفراغ فلسطين من سكانها الأصليين، كما لم تستطع فرض استسلام على الفلسطينيين أو القضاء على هويتهم.

ختاما أستطيع القول: إن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يُبرز بوضوح أن النصر والهزيمة لا يُقاسان فقط بالخسائر أو الإنجازات المادية، بل يتعدى ذلك إلى مدى القدرة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية وحماية الهوية الوطنية وصلابة وثبات الإرادة.
وما دام الشعب الفلسطيني متمسكًا بحقوقه المشروعة والثابتة غير القابلة للتصرف من أي جهة كانت، وما دامت إسرائيل غير قادرة على تحقيق الاستقرار الشامل الداخلي والإقليمي والدولي، سيظل هذا الصراع مفتوحًا غير محسوم، لا على مستوى النصر ولا على مستوى الهزيمة للطرفين، وسيبقى الأمن والسلام والاستقرار أيضًا غائبًا، حتى يتم إنهاء الصراع الدائر على أسس احترام قواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ودون ذلك لا نصر ولا هزيمة.