تواتر الحديث في وسائل الإعلام الإسرائيلية والفلسطينية والعربية بعدما نَشرت بعض القنوات الإسرائيلية، أنَّها توصلت إلى عناوين ومحددات الصفقة الترامبية المنوي طرحها قبل نهاية العام الحالي. واندلق الإعلاميون بمدارسهم وفرقهم ومنابرهم المختلفة في استنطاق السياسيين والخبراء المختصين حول آفاق الصفقة؟ وكيف ستتعامل معها القيادة الفلسطينية؟ وهل هي صفقة محصورة بالمسألة الفلسطينية الإسرائيلية أم ترتبط بالحل الإقليمي الأوسع؟ وما هي انعكاساتها على القيادة الفلسطينية؟ وهل المصالحة لها علاقة بصفقة القرن أم خارجها؟.

أسئلة كثيرة تقاذفتها ألسنة المراقبون وعناوين المنابر الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة، وفتحت الشهية عند العديد من أصحاب الرأي، فقاموا بإخضاعها للتحليل والتمحيص والاستدلال والاستنتاج. وعلى أهمية المبادرة من قبل كل من حاول استشراف آفاق الصفقة، وقراءة ما رشح من معلومات تحتمل كل التصنيفات بدءاً من دقتها وانتهاءً بعدم دقتها أو ما بينهما، ووضع الاستنباطات الممكنة ارتباطاً بخلفيات كل منبر أو كاتب وخبير. وكأنهم جميعاً في عجلة من أمرهم، حيث طال الانتظار على ضفاف الصفقة لبلوغ قلبها ومحتواها. لكن حتى الآن ووفق الناطق الرسمي باسم الإدارة الأميركية لا أساس لكل ما تناثر من "معلومات" وتداولته وسائل الإعلام. ومع ذلك فإنَّ العصف السياسي حول الصفقة الأميركية، بغض النظر عما توصل إليه الكتاب والمحللون من نتائج، قدم إسهاماً للإدارة الأميركية في قراءة التوجهات العامة للمزاج العام في الشارعين الفلسطيني والإسرائيلي.

لكن حتى يقترب أي مراقب من مقاربة معقولة ومنطقية لمحددات الصفقة، عليه العودة لتصريحات الرئيس دونالد ترامب وفريقه المكلف بالإشراف على الملف، وبعد ذلك يمكنه استنطاق الآفاق المحتملة أو الأقرب للواقع في بناء الصفقة، ومن تلك ما يعلن صباحاً ومساءً: أولاً الاستيطان الاستعماري لا يشكل عقبة أمام المفاوضات والتسوية السياسية، ثانياً لا وقت وزمن محدد للمفاوضات، ثالثاً عدم فرض الصفقة على أي من الفريقين في حال بلورتها، رابعاً ضبابية ملامح ومرتكزات الصفقة، خامساً جزءً لا يتجزأ من حل شامل يطال دول الإقليم، وليس الوطن العربي فقط، سادساً رفض وصول الفلسطينيين إلى المنابر الدولية للدفاع عن حقوقهم، ومطاردتهم، ومطاردة أصدقائهم في المؤسسات والهيئات الأممية دون استثناء، سابعاً إطلاق يد إسرائيل الاستعمارية في التقرير بالمسائل ذات الصلة بالملفات النهائية للصراع، ثامناً تواصل الولايات المتحدة والمؤسسات الصهيونية الأميركية والمعاهد ومراكز الأبحاث في فتح قنوات جانبية مع شخصيات سياسية وأكاديمية إسرائيلية وفلسطينية من مختلف التجمعات من ال48 و67 والشتات للوقوف على نبضها من جانب، ولتعميق عملية الترويض للعقل السياسي الفلسطيني تحديداً لقبول الرؤية الاستعمارية الإسرائيلية أو على أقل تقدير تجريعها عملية تدوير الزوايا في مسألة حل الدولتين بما يتوافق وذرائع إسرائيل الأمنية.

إضافة لما تقدم، فإنَّ فريق الإشراف الأميركي على الإعداد للصفقة هم يهود صهاينة ومستعمرين بدءاً من صهر الرئيس ترامب كوشنير، مروراً بغرينبلات، وصولاً لفريدمان والسيدة باول. وبالتالي لا أحد يفاجأ في حال كانت الصفقة منحازة كلياً لإسرائيل ومتطلباتها الأمنية، ورؤيتها السياسية الاستعمارية للحل، وتثبيتها مسألة التطبيع أولاً مع العرب قبل معالجة المسألة الفلسطينية، رغم تصريحات بعض القادة العرب عكس ذلك، لكن الطرف المقرر ليس العرب بل الإدارة الأميركية، مع ذلك يبقى هذا في نطاق الاستنتاج، وهو ما يدعو المرء أو أي مراقب للبناء عليه من جهة، وعدم إهماله من جهة أخرى، غير إن الصفقة في حال كانت متناقضة مع مصالح الشعب الفلسطيني، فإنَّها ليست قدراً على القيادة والشعب الفلسطيني قبوله، فعلى مدار تاريخ الصراع ومنذ مطلع خمسينيات القرن الماضي والمشاريع والحلول الأميركية والإسرائيلية والأوروبية والعربية تتحاذف على الرأس الفلسطيني، ولكنها جميعاً باءت بالفشل والسقوط، لأنَّ إرادة الشعب العربي الفلسطيني حالت دون تمرير أي من المشاريع الاستعمارية. وكنتيجة لما تقدم، إن كان الرئيس ترامب معني فعلاً بوجود صفقة تاريخية وناجحة، عليه أن يتبنى قرارات الأمم المتحدة ومرجعيات عملية السَّلام على أساس خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967، وضمان حق العودة للاجئين على أساس القرار الدولي 194، وحق المساواة الكاملة لأبناء الشعب الفلسطيني داخل إسرائيل. غير ذلك يكون نوع من الترف والثرثرة والتسويف والمماطلة لتمرير والتغطية على المشروع الاستعماري الإسرائيلي.