تقرأ الدول والشعوب وقواها الحية الفاعلة التاريخ وتعيشُ الحاضر بكل حيثياته. فإذا لم تتعلم الأنظمة وأحزابها وقواها الإسلامية بكافة مدارسها وكياناتها وأطرها التنظيمية وأجندتها من التاريخ فعلى الأقل تعيش وتتفاعل وتتعمق في قراءة شواهد الحاضر.

إن التشتت والتشظي والغرق والتبعثر القائم في المنطقة العربية والساحة الفلسطينية لا يبشر بفرجٍ ولا يحمل خيراً لشعوبها. إنه حقيقة ينذرُ بخطر ساحق ومستقبل قاتم ومظلم. هذه القوى المتشظية والمبعثرة بين أحزاب سياسية (علماني، وحدوي، ديمقراطي، يساري، ليبرالي، اشتراكي، رافض، صامد وممانع)، وقوى إسلامية (سلفي، سلفي دعوي، جماعة توحيد، جماعة تكفير، حماس، إخوان مسلمون حزب الله، أنصار الله، قاعدة، جهاد، نصرة)، تعمل في اتجاهات منفردة لتوكيد ذاتيتها وتمايزها وخصوصياتها وفرادتها ووحدانيتها لتحقيق نفوذ، وتأمين سيطرة وتحقيق مكاسب في مواجه قوى فاعلة إسرائيلية وغربية تعتمد أجندة واحدة.

بعض هذه القوى الإسلامية المبعثرة نشأ وترعرع داخل رحم جماعة أكبر وأعم وأشمل فكرياً وتنظيمياً فقفز فجأة إلى الواجهة بدعم محلي أو إقليمي في شكل فئة غير مؤطرة تنظيمياً لتحتل حيزاً في الساحة.

نتوجه إلى كافة القوى السياسية وأحزابها وفصائلها وكذلك إلى القوى الإسلامية بكل أطرها وتنظيماتها وأجنداتها أن تتأنى وتتعمق في قراءة مواقف الدول العربية منذ المسألة الشرقية في القرن 19 حين تحدث غلادستون رئيس وزراء بريطانيا في مجلس العموم البريطاني، وقال "إن المسألة الشرقية لا يمكن حلها ما دام هذا الكتاب موجوداً"، رفع بيده ذلك الكتاب فإذا به القرآن الكريم (مذكرات الحسيني، ض 214)

على تلك الأنظمة والقوى السياسية والإسلامية أن تتفهم شواهد الحاضر من أفغانستان وباكستان، فالعراق وسوريا ولبنان، إلى مصر وليبيا وتونس ثم اليمن جنوباً منذ آذار عام 2011، مع تسليط الضوء على لب الصراع في المنطقة والعالم اعني القضية الفلسطينية.

الأنظمة الغربية تعمل على تعزيز مواقعها الإستراتيجية، وبسط سلطاتها وهيمنتها على المنطقة ونهب مواردها النفطية ومعادنها، وتكفل بقاء المنطقة سوقاً استهلاكية لمنتجاتها الصناعية والتكنولوجية، وألبستها ذات الماركات العالمية، وعطوراتها وأدوات التبرج والزينة، وبقاء المنطقة حقل تجارب واختبار لأسلحة صدئت في المخازن دُفع ثمنها بالعملة الصعبة!! بذلك تحقق الدول الغربية ما تصبو إليه في تأجج الصراع حمايةً للكيان الصهيوني وضمانة لمصالح مشتركة بين الطرفين.

فالمفاوضات التي بدأت في واشنطن في تموز الماضي بين السلطة الوطنية  الفلسطينية، برعاية وإملاءات عربية، استجابةً لرغبة  أمريكية، الحكم على نجاحها ليس من خلال مزاعم كيري وزير الخارجية الأمريكية ووعود الرئيس أوباما وما تنشره وسائل الإعلام الغربي وما تردده أبواق الإعلام العربية الدائرة في فلك الإعلام الغربي، وإنما تكون من العربية بقراءة منظوري التاريخ اتفاقية سايكس- بيكو وإفرازاتها ومن شواهد ووقائع الحاضر مع رئاسة بل كلينتون، وجورج بوش الأب وجورج بوش الابن وأوباما وإملاءاتهم وشروطهم للسلطة الوطنية الفلسطينية.

الحاضر معلم جيد في قراءة المشهد الفلسطيني من حيث كونه يشكل إطاراً لفهم الموقف الصهيوني ومرجعية لسلوكهم في المفاوضات من أوسلو 1993، ولقاء مدريد، ثم خارطة الطريق لبوش، ومبادرة السلام العربية ما طرأ من تراجع وتغيّر وتبديل في مواقف الأنظمة العربية والقبول الفلسطيني استجابة للتعنت الصهيوني والرغبة الأمريكية. إن ما تمارسه الصهيونية في فلسطين وما يلاقيه الفلسطينيون من طرد ونفي، وما تعرض له الأسرى الفلسطينيون من قهر وإذلال لا يشير إلى نتائج ايجابية من المفاوضات.

المنظور الصهيوني يصُّر ويعمل ويحشد قواه العسكرية والإعلامية على أن فلسطين التاريخية ملك للصهاينة وسنوات المفاوضات الطويلة والمضنية كانت مصداقاً لهذه العقيدة.

الكيان الصهيوني مستمر في بناء المستوطنات وقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وكذلك في فلسطين ما قبل عام 1948، ويطرد السكان ويصادر الأراضي، وما مشروع برافير- بيغن في منطقة النقب إلا خير شاهد ودليل.

أية مفاوضات ترغب السلطة الفلسطينية اعتمادها؟ والكيان الصهيوني يرفض رسم حدود كيانه، ويتصرف بالموارد الطبيعية من مياه وغيرها، وهو الذي يقرر كل مال له بالسيادة ونظام الحكم والتحكم بالحدود والمعابر والمرافئ وإقامة الحواجز الثابتة والمتنقلة بين المدن والقرى والمزارع الفلسطينية، ويمعن في تمدد جدار الفصل العنصري ويتدخل في الأحوال الشخصية والمدنية للمواطنين الفلسطينيين!!.

ما فائدة اللقاءات والمفاوضات التي تدور في حلقة مفرغة؟ وما فائدة المطالبة بتطبيق قوانين الشرعية الدولة التي لا يكترث الكيان بها، وإنما يعمل على تثبيت وتنفيذ كل ما له علاقة بكيانه. يشير بند 11 إلى قرار تقسيم فلسطين عام 1947 على "إنشاء دولة عربية ودولة يهودية!! يحدد هذا القرار دولة يهودية. وهذا ما يصّر الكيان عليه اليوم مع عدم القبول بدولة فلسطينية.

الكيان الصهيوني والقوى الغربية الداعمة له فرنسا منذ حملة نابليون بونابرت على مصر، وبريطانيا منذ المسألة الشرقية وأمريكا مع ترومان. تعمل هذه القوى الغربية طبق خطة وأجندة ومنهجية طمس الحق الفلسطيني وتغيير الديمغرافيا داخل القدس وكافة فلسطين، الغاية القضاء على فكرة إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة وحتى اللحظة بعد مضي 65 سنة لم يرسم الكيان حدود كيانه، ويرفض التحدث عن عودة اللاجئين الفلسطينيين وإطلاق آلاف الأسرى الذين يقبعون في سجونه دون محاكمة ولا سيما الأطفال منهم. إنما يريد التحدث والتفاوض في القضايا الأمنية ليجعل من شرطة السلطة الوطنية الفلسطينية وقواها حارساً وحامياً لأمن الكيان من خلال التنسيق الأمني!!.

إن تمسك الكيان الصهيوني بمواقف متعنتة تنبع من شعوره أن قوته العسكرية تكفل له التفوق والأمن والأمان، ومعرفته وثقته بالموقف الأمريكي الداعم، وضعف واستكانة أنظمة عربية خانعة ومنصاعة لإملاءات إقليمية ودولية تكفل له التمادي في غيّه وصلفه وتسويفه.

خيارات السلطة الوطنية الفلسطينية عديدة ومتنوعة، نذكر بعضاً مها:

1- إعلان العصيان المدني.

تثبيت فاعليته وجدارته في الانتفاضة الأولى عام 1987، وليس معنى ذلك إسقاط خيار نهج الكفاح المسلح.

2- تشجيع الإنتاج الوطني من خلال إنشاء وتشكيل جمعيات تعاونية ومشاريع زراعية وفك الارتباط الاقتصادي مع الكيان الصهيوني.

3- لقاء جبهوي وتوحيد الجهود السياسية والعمليات العسكرية بين فصائل المقاومة الفلسطينية من جهة، وبين القوى الإسلامية من جهة أخرى طبقاً لأجندةٍ محددة الإجراءات وبرنامج عمل واضح المعالم متدرج في نهجه دون التراجع والنكوص مهما طرأ من ضغوطات وإملاءات. الثوابت تبقى ثوابت تحت كافة الظروف.

4- تشكيل قيادة سياسية رديفة كقيادة عسكرية يتمتع أعضاؤهما بكفاءة وفاعلية ومعرفة وخبرة عملية.

5- وضع حدٍ للمهاترات الإعلامية والتعبوية العصبوية والتنظيمية المقيتة.

6- اعتماد الحوار والنقاش أسلوباً في حل القضايا الخلافية بين كافة قوى المقاومة كفئات ومجموعات وجبهات.

7- اعتماد هيئة استشارية مشهود لها بالمعرفةِ والنزاهة والقدرة والاستقامة والخبرة.

8- العودة إلى الشعب الفلسطيني في القضايا المفصلية. كمنهجية ونهج عمل منظم وصاعد ومتدرج كفيل بإدخال ارباك في صفوف المدنيين والعسكريين الصهاينة وفضح القوى والأنظمة الداعمة له ومثيلاتها المستكينة والطائعة داخل الأنظمة العربية.

ربما يؤدي النهج والمنهجية إلى إحياء مقولة هرتسل: اختار فلسطين أم الأرجنتين؟ سنأخذ ما يعطي لنا". لقد فكر هرتسل وجماعة يسرائيل زانغويل ببدائل وخيارات، منها، قبرص، كينيا، موزمبيق والكونغو.

وإنما كانوا ينتظرون "براءة دولية"، فحصلوا عليها لانصياع واستكانة الأنظمة العربية وخنوعها لإملاءات غربية!!

نناشد السلطة الوطنية وفصائل المقاومة بأطيافها والقوى الإسلامية بفئاتها إحياء وتعزيز هذا التشويش والارتباك في صفوف المدنيين الصهاينة ليعودوا إلى البلدان التي جاءوا منها.

مطلوب من المقاومة الفلسطينية بجناحيها العمل على خلق إرباك وقلق في نفوس المدنيين الصهاينة مما ينعكس تأثيره على العسكريين.

الشعب الفلسطيني في الداخل والضفة والقطاع ومناطق الشتات ينتظر الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح. الضغط الاقتصادي والاضطراب الأمني خطوتان لازمتان وضروريتان لنزوح الصهاينة خارج فلسطين.

محمود الأسدي/ 2/ أيلول/ 2013