افتتاحية مجلة القدس- العدد السنوي 322

إنَّ تدويل القضية الفلسطينية كان رداً على السياسة الإسرائيلية القائمة على تقويض حل الدولتين، وإنهاء عملية السلام، وتكريس سياسة الاستيطان والتهويد، والعدوان، والإجرام. القيادة الفلسطينية اختارت أن تنقل ملفات القضية الفلسطينية إلى الطاولة الدولية بعيداً عن الهيمنة والانحياز الأميركي المكشوف إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي حليفها الاستراتيجي. هذه النقلة النوعية السياسية أغضبت الولايات المتحدة كما أغضبت الكيان العنصري الإسرائيلي، واحتدم الصراع متخذاً الأبعاد السياسية، والدبلوماسية، والقانونية، والجنائية. وهكذا إختار الطرف الفلسطيني خوض المعركة في الساحة الدولية، وعلى الطاولة السياسية الدولية نفسها التي أعطت الحق للمستعمرين القادمين من شتات الأرض، من خلال تفاهم امبريالي صهيوني بغيض لإقامة كيان صهيوني عنصري على أرض فلسطين التاريخية على حساب الشعب الفلسطيني.
فعلى هذه الطاولة نفسها التي ظلمتنا، وشردت شعبنا، وحرمتنا من إقامة دولتنا الفلسطينية، وحرمت شعبنا من العودة إلى أرضه التي شُرّد منها بقوة المجازر، والقتل، والقصف، والتدمير، يجب أن نعود بقوة عدالة القضية.
وهنا كان السؤال الجوهري والأساس في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟!.
إلى متى ستبقى قرارات الأمم المتحدة التي تعني الوجود الفلسطيني، والقضية الفلسطينية من 181 إلى 194 إلى العديد من قرارات الاعتراف بحق تقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة، تبقى كلها في الثلاّجة الأميركية حيث الهيمنة والسيطرة وتجاهل إرادة الشعوب الحرة؟".
بناءً على المعادلة السابقة تمّ تحديد خيار العمل السياسي الجديد في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة العربية حروباً تدميرية، وصراعاتٍ طائفية ومذهبية تعكس المصالح الدولية والإقليمية على حساب شعوب ومستقبل ومصير هذه الأمة.
ففي الوقت الذي كانت فيه المعارك تحتدم، والمدن تحترق، والضحايا بالآلاف، والدمار يطال التاريخ والجغرافيا كانت القيادة الفلسطينية تسعى إلى حماية شعبها، وتقليل الخسائر بين صفوفه، وعدم الانجرار إلى صراعات جانبية هنا أو هناك، باعتبار أن البوصلة تتجه دائماً نحو فلسطين، وفي الوقت الذي كان فيه العدو الإسرائيلي يشنُّ العدوان الأول، والثاني، والثالث لحسم الموقف على جبهة حماية الوجود الفلسطيني من التصفية. وهكذا تحقق الاعتراف بدولة فلسطين دولة عضو مراقب في الأمم المتحدة، وذلك باعتراف (138) دولة مقابل (8) دول اعترضت.
ثم كان الاعتراف بفلسطين دولة تحت الاحتلال على الأراضي المحتلة العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
إنّ تركيز المسؤولين الفلسطينيين على ضرورة عقد مؤتمر دولي حول القضية الفلسطينية، ومطالبة واشنطن أن ترفع يدها عن أيّ قرار داعم للشعب الفلسطيني هو عنوان المرحلة القادمة.
إنّ عقد المؤتمر الدولي حول القضية الفلسطينية سيكون ملزماً للجمعية العمومية ولدول العالم، وبالتالي دول العالم التي اعترفت بالكيان الصهيوني عليها أن تسأل نفسها أين هي دولة الشعب الفلسطيني؟ وإلى متى ستستمر واشنطن في دورها المنحاز والظالم للشعب الفلسطيني؟!.
ما يطالب به الجانب الفلسطيني هو فقط تطبيق قرارات الشرعية الدولية، ووقف الانحياز الأميركي الذي فتح الطريق أمام العدوانية الإسرائيلية لتستبيح كل شيء، وبالتالي يتم تفريخ فصائل إرهابية تتماهى مع ما تقوم به إسرائيل.
القيادة الفلسطينية بدأت تعزز فكرة عقد مؤتمر دولي يحدد آلية لإزالة الاحتلال، وتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني، بعد أن تم عقد عدة مؤتمرات للقضايا السورية، والليبية، واليمنية، وفي المقدمة النووي الايراني، وأيضاً الاستفادة الآن من وجود مصر في مجلس الأمن على المقعد غير الدائم، وهذا ما يعطي فرصة لإنجاح الجهود. وهناك توافق مصري فلسطيني على الخطوات المطروحة لإنجاح مثل هذا المؤتمر الدولي.
والواضح أن هناك قراراً جدياً لدى القيادة الفلسطينية بالسعي إلى عقد مثل هذا المؤتمر، وبدأت اللقاءات المكثفة على صعيد وزراء الخارجية العرب للدفع باتجاه تعزيز الفكرة للوصول إلى قرارات دولية تفرض على إسرائيل وقف الانتهاكات المتواصلة في الأراضي المحتلة، وإنهاء معاناة وعذابات الشعب الفلسطيني، وإزالة الاحتلال، وهنا سيكون بإمكان مصر العروبة أن تقوم بدور محوري في عملية التحضير والتواصل لعقد مثل هذا المؤتمر من خلال عضويتها في مجلس الأمن.
لاشك أن الهبة الشعبية، هبة الأقصى التي دخلت شهرها الرابع هي من أهم الانجازات الفلسطينية الوطنية التي أعادت الحضور المقاوم ميدانياً، وزرعت الرعب والقلق، والاضطراب في المجتمع الإسرائيلي، وفي قلوب الجنود والمستوطنين، وهذه الهبة الشعبية التي قدمت حتى الآن مئة وخمسة وخمسين شهيداً هي ماضية باتجاه تكوين انتفاضة عارمة على غرار الانتفاضة الأولى، وقد أخذت هذه الهبة الشعبية بمقاومتها الجريئة مكانها الطبيعي في الصراع ضد الاحتلال العسكري الصهيوني، وبشكل مكمّل للجهود السياسية المبذولة على الصعيد الدولي، وبات المطلوب اليوم فلسطينياً احتضان هذه الهبة الشعبية الشبابية، وتصليب عودها من خلال الموقف الفلسطيني الموحد، أي من خلال إنهاء الانقسام والانتقال إلى المصالحة رحمةً بشعبنا الفلسطيني، وخاصة أهالي قطاع غزة الذين يعانون الامرّين بحكم الواقع الظالم القائم في القطاع حيث لم يُسمح لحكومة الوفاق الوطني أن تمارس دورها في القطاع كما أن قيادة حركة حماس حتى الآن تعارض تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، كما أنها مؤخراً رفضت المبادرة التي تقدمت بها الفصائل الفلسطينية مجتمعة، وأصرّت على أن تقدّم المبادرة التي تخدم مصالحها فقط، وهذا ما يُعرقل عمل السلطة في القطاع وتواجدها على المعابر، كما أنها تعرقل فتح معبر رفح، لأن الجانب المصري يُصرُّ أن علاقة النظام المصري هي مع السلطة وليست مع أي تنظيم آخر. وهذا الموقف بات يطرح تساؤلات مهمة، وأجوبتها خطيرة جداً، فماذا يريد الأخوة في قيادة حركة حماس بعد كل هذه العذابات والحروب، وتضحيات الأهالي في العدوان الأول والثاني والثالث؟!.
إنّ المجلس المركزي الذي أخذ قرارات واضحة في اجتماعه في آذار 2015 وهي المتعلقة باتفاق أوسلو وتحديداً وقف التنسيق الأمني، وإنهاء التعامل مع اتفاق باريس الاقتصادي، قد حوّل هذه القرارات للدراسة في اللجنة السياسية للجنة التنفيذية، والمطلوب من المجلس الوطني أن يأخذ قراره النهائي في هذه القضايا في حال انعقاده، وعلى الذين يعرقلون انعقاده أن يأخذوا مواقف ايجابية واضحة بهذا الخصوص.
إن الرئيس أبو مازن يصر على أن السلطة إنجاز وطني وخطوة نحو الدولة لا يمكن التخلي عنها.
إنه بذلك يرد على التهديدات الإسرائيلية بإنهاء السلطة وبحث ما بعد ذلك، وأيضاً رسالة إلى بعض الأطراف الفلسطينية الذين يشككون بجدوى وجود السلطة، ودورها الوطني، وهو رد على حركة حماس التي تريد إسقاط السلطة في الضفة لتبقى السلطة في قطاع غزة.
نحن نؤكد أنه لا دولة دون سلطة سياسية، والسلطة هي سلطة وطنية فلسطينية تجسد طموحات الشعب الفلسطيني، وهذه السلطة المطلوب منها التأسيس البنيوي للدولة القادمة، لأن دور السلطة حسب اتفاق أوسلو هي التي تنقل الشعب الفلسطيني من الاحتلال إلى الاستقلال.
وهنا علينا أن نتذكر بأن اتفاق أوسلو كإتفاق مبادئ تعاقدي أسقطه الإسرائيليون في العام 2000 عملياً لأنه فشل في تحقيق المطلوب منه وهو الانسحاب الإسرائيلي من كافة الأراضي المحتلة، وإقامة الدولة المستقلة. ولذلك فإن الجانب الفلسطيني غير مقيّد بهذا الاتفاق، وبإمكانه التخلي عنه، ووقف التعامل معه في أي وقت بما يتناسب مع مصالحة.
المطلوب سلطة قادرة على تلبية متطلبات استمرار الصمود الفلسطيني بوجه الاحتلال، وتعزيز المشروع الوطني، ومواجهة أشكال العدوان الإسرائيلي من استيطان وتدنيس المقدسات، ووضع حدٍ للمضايقات التي لا تطاق بحق الفلسطينيين بما فيه الإعدامات اليومية، ويبقى على هذه السلطة أن لا تكون فئوية، وإنما إطار وطني جامع يمثل الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال.
إن السلطة الوطنية هي وسيلة، ولا تقبل أن تكون هي الغاية المقصودة بحد ذاتها، ولذلك من واجبها دائماً أن تبحث عن دورها الوطني في بناء الدولة، وليس في توفير مصالح هذا الطرف أو ذاك. وإنما عليها البحث في تصليب أوضاعها، وتماسك مؤسساتها، وتجديد برامجها لحماية مكوناتها الأساسية.
إن الرئيس أبو مازن في خطابه الأخير كان الأكثر وضوحاً بصدد مستقبل السلطة ودورها عندما قال: نحن حراس هذه البلاد المقدسة، وسوف ندافع عنها، ونحميها بعيوننا وسواعدنا وهي لنا ولا يحلمنّ أحدٌ بانهيار السلطة، وما بعد السلطة الدولة، الدولة ولا خيار آخر.
إنَّ حركة فتح أسهمت في بناء السلطة الوطنية، بينما كان العدو الإسرائيلي يسعى إلى تدمير السلطة، كما أنَّ بعض الأطراف عملت جاهدة لإضعاف وتشويه دور السلطة التي كانت تشكل شوكةً في عين الاحتلال. والذين حرَّضوا على السلطة لم يطرحوا البدائل الأفضل، وإنما كان المهم بالنسبة لهم هو التخلُّص من السلطة تحت شعار أنها (سلطة أوسلو). والواقع أنَّ مختلف الأطراف التي تعيش في الضفة الغربية وقطاع غزة هي تتفيأ بظلال أوسلو، وتعيش وتتعاطى مع إفرازات أوسلو وخاصة المشاركة في الانتخابات، والعمل في المؤسسات، والوزارات، والشركات، والبلديات، والجامعات. فالجميع داخل صفوف أوسلو سواء أعجبه الاتفاق أو لم يعجبه.
العدو الإسرائيلي يتمنى حل السلطة وإنهاءها من قبل الجانب الفلسطيني لأنها عقبة سياسية أمامه. والذي يجب أن نعرفه بأنَّ السلطة إلى جانب الأرض والشعب تشكل الدولة الفلسطينية. وغياب السلطة الوطنية السياسية يشكل ثغرة في الجدار الفلسطيني.
لقد تمكنت القيادة الفلسطينية من الوصول إلى مرحلة من النضوج الوطني بحيث أصبحت اليوم تزاوج بين الهبة الشعبية والهجوم السياسي المدروس الذي تضمن إنجاز الاعترافات بالدولة الفلسطينية، والانضمام إلى المؤسسات والهيئات الدولية على اختلافها، بما في ذلك التوقيع على اتفاقات جينيف الاربع، وتقديم مختلف الملفات إلى محكمة الجنايات الدولية.