بقلم- خالد ابو عدنان- خاص مجلة القدس العدد السنوي 322

لا هوية إلّا الخيام – كتبت - إذا احترقت ضاع منك الوطن. والخيمة في الشعر، كالغجرية بين النساء، لا أرض لها ولا وطن. في غيابك الآني عن وطنَك، فوق أي أرض اخترت أن تعيش. " محمود درويش"
مازالت قوافل اللاجئين العرب تتوافد إلى أوروبا في موسم الهجرة إلى الشمال، معتبرين أن وصولهم إلى المدن الغربية نهاية رحلة العذاب وانتهاء زمن الانتظار وبداية لحل مشكلاتهم العتيقة. وفي الوجه المقابل تبحث الدول الغربية عن استقطاب المهاجرين لها وتوطينهم في مجتمعاتهم لحل مشكلاتهم الاقتصادية بأقل التكاليف. بين ما هو معروض في أسواق الهجرة العربية  وما هو مطلوب في سوق العمل بالمدن الأوروبية ضاعت سندريلا لكنها عربية بامتياز. ومن جانب آخر تُقر معظم الدراسات عن اللاجئين أن من يصلون بطرق غير شرعية إلى الدول الأوروبية تنطبق عليهم شروط اللجوء الإنساني بفروعه المختلفة لكن هذا لا يعني أنه ينطبق عليهم شروط الهجرة للبلدان الغربية بل أن بعضهم لا يصلح للتوطين في معظم الدول الأوروبية، في خلط التعاريف والمصطلحات التي تتداخل لترسم مقاس حذاء سندريلا.
ورغم الضجة الكبرى التي أثيرتْ حول موضوع اللجوء العربي إلى أوروبا تبقى المنطقة العربية أعلى مناطق العالم اكتظاظا باللاجئين، بل ان وجود اللاجئين في العديد من الدول أكبر من أن تتحمله اقتصاديات الدول المتقدمة، ولا تصل نسبة من وصل – من اللاجئين العرب - إلى أوروبا أكثر من 3% في أكثر التقارير مبالغة في حجم هذه الظاهرة. ومهما قيل عن الصعوبات التي يواجهها اللاجئ العربي في بلاد الغرب إلا أنها تفتح أبوابها للاجئين دون تمييز من يصلح ليدخلها أو من هو الممنوع من الإقامة فيها. كي يكون حديثنا منطقيا، فإن دخول اللاجئين المصنّف غربياً بغير الشرعي، أي أن اللاجئ يجتاز الحدود الدولية دون أوراق ثبوتية، يعتبر وضعاً طبيعياً في ظروف الحرب الأهلية التي تجتاح الأقطار العربية، بل إن معظم النقاط الحدود بين الدول المنكوبة بالحروب الأهلية والدول المجاورة مغلقة أو صعبة الوصول لطالبي اللجوء.
في الدول الغربية، يُمنح اللاجئ العربي صفة الإقامة المؤقتة القابلة للتجديد لحين توفر الظروف الملائمة لعودته إلى وطنه أو انتقاله إلى بلد ثالث قد يكون مهجره الأوروبي. دون أن ننسى أن هناك كماً هائلاً من اللاجئين غير المسجلين أو المنتهية صلاحية إقامتهم في العديد من الدول العربية. وإذا ما تم استثناء اللاجئين الفلسطينيين، فإن ظروف اللاجئين العرب تُعد مؤلمة مقارنة في بلاد العالم الثالث في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا، حيث يُسمح للاجئين بممارسة النشاطات السياسية وكذلك العسكرية وفقاً لمفهوم حق تقرير المصير الذي يُعطيهم حق استخدام كل السُبل لحل أزمة المواطنة وحق إقامتهم في أوطانهم مع ضمان المبادئ الإنسانية العامة: الحرية، المساواة، العدالة. إن المنظمات الدولية والدول المضيفة لمخازن اللاجئين تفرض بالأمر كل شيء داخل حدود أماكن تخزين اللاجئين فهي تحدد شكل ثقافتهم وتعليمهم وهي تحدد نوع الدواء ونوع العلاقة الاجتماعية، بل إنها بالغالب ترفض إي مبادرة فردية هدفها إقامة نشاط ثقافي أو اجتماعي بدواعي الظروف الأمنية، بل إن مخازن اللاجئين مكان مباح لكل الأجهزة الأمنية الدولية والإقليمية، وأيضا تجار اللحم الأبيض الحلال أو الحرام، وأيضا مافيا تهريب المهاجرين غير الشرعيين، في مخزن بشري يطرح كل الخيارات إلا خيار استعادة الوطن وعودة المواطنة لمن لجأ قسرا ولا يطمح أن يسكن قصراً.
إلا أن المستقبل القريب يُنبئ أن أعداد اللاجئين العرب سوف تتزايد، وأن أزمة المواطنة في الدول العربية ستتصاعد مع استمرار لهيب حروب أخوة الوطن في العديد من الدول العربية. مما يعني أن هناك ضغطاً اقتصادياً مُضاعفاً على الدول الحاضنة للاجئين العرب ، مما أفرز أزمة بطالة حادة خلقت تراكيب تراكمية للجوء الاقتصادي في بلاد العرب، ليُكمل شكل قوافل المهاجرين إلى خارج المنطقة العربية في موسم الهجرة إلى الشمال، الذي لا يقدر عليه إلا المقتدر مإلىاً ليدفع للمهربين "تحويشة العمر". أما فقراء اللاجئين العرب فينتظرون في مخازن اللاجئين بالدول العربية لاستتمام معاملات الهجرة الشرعية والتي لا تشكل أكثر من 1% من أعداد المهاجرين في الوطن العربي، فمخازن اللاجئين أقل بكثير من مفهوم مخيم لاجئين حيث أنه يقتصر دورها على إبقاء اللاجئين أحياء دون أن يمارسوا حياة طبيعية  كباقي المقيمين الأجانب في تلك الدول.
فالحقيقة أن اللاجئين يحلمون بالعودة إلى أوطانهم أو أماكن سكنهم قبل الحرب (وضع الفلسطينيين في سوريا على سبيل المثال لا الحصر) ، إلا أنهم لا يرون أفقاً لإنهاء الحروب الأهلية في بلادهم، ومن زاوية أخرى بدأ اللاجئون يرفضون مفهوم مخازن اللاجئين والقيود المفروضة عليهم من الدول المضيفة والمنظمات الدولية، بل أن بعضهم يخاطر بالعودة إلى الوطن المنكوب، كما أن معدل النزوح داخل البلاد المنكوبة في تصاعد مستمر، بل إن عدد النازحين داخل أوطانهم يفوق عدد اللاجئين في مخازن اللاجئين في دول الجوار. كما أن اللاجئين الهاربين من مخازن اللاجئين في دول الجوار للبلاد المنكوبة إلى الدول الأوروبية الغربية لا يعني تحولهم مباشرة لمهاجرين، فهذا تعميق للمشكلة وكفر بحق المواطنة تفرضه الدول المضيفة في الجوار العربي كما في أوروبا، إن تحويل مطالب اللاجئين المعرّفة بالقانون الدولي وميثاق حقوق الإنسان إلى مطالب مهاجرين ليس لهم مطالب سياسية في حل أزمة بلادهم بل أن العديد من الدول تطلب منهم الانسلاخ السياسي لكل ما يمثل وطنهم المنكوب، ويتم تحميل من يمارس أي نشاط سياسي تهم الانتماء للنظام والمعارضة معاً في أكبر ظلم تشهده الانسانية بحق مفهوم اللاجئين الهاربين من الاقتتال الداخلي في بلادهم.
ومن منظور آخر، تتعطش أسواق العمل في أوروبا لهجرة العمالة الرخيصة غير المكلفة، بل إن أغلب الدراسات تُقر أن اللاجئين العرب أعلى مهارة من باقي اللاجئين وأكثر تعليماً وأقرب للاندماج في التركيب الاقتصادي الأوروبي، لكن المشكلة الجديدة هي الاتجاهات الدينية المتشددة في المنطقة العربية وكذلك في أوروبا فهي تُشكل إلىمين المتطرف الرافض لمفاهيم التعدد الثقافي، الركيزة الأساسية للمجتمعات الأوروبية. وفي نظرة تاريخية نرى أن الدول الغربية أثناء الحرب الباردة مع الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي احتضنت المعارضة العربية الدينية اليمينية وقدّمت لها الحماية والدعم المإلى والإعلامي لمقاومة المد اليساري بالوطن العربي، بل انها سمحت بتمثيل الجاليات العربية في بلاد الاغتراب في محاولة لإسقاط الأنظمة اليسارية الحاكمة بالدول العربية. فأغلب مؤسسات الجإلىة العربية في أوروبا كانت إسلامية الطابع وتمويلها من ميزانية الحكومات المضيفة.
وفي بداية الثمانينات من القرن المنصرم، تم تجييش المعارضة الدينية اليمنية المهاجرة في صفوف المجاهدين العرب بحرب جمعت أهداف الغرب والجماعات الدينية اليمنية العربية ضد دخول القوات السوفياتية إلى أفغانستان، ومهما قيل عن تلك المرحلة إلا  أنها تعد أزهى مراحل تطور العلاقة بين المجموعتين، بل إن الدول الغربية فرضت على الدول العربية ضرورة قبول هذه الأفكار داخل حظائر الإعلام العربي المُوَجّه ضد الشيوعية والالحاد. ومهما قيل على تبدل العلاقة بين الطرفين إلا أن مصالحهم السياسية العليا مازالت مشتركة، بل إنها موَحدة في الصيغة العامة لشكل العلاقة بين الغرب والعرب. وإن كانت الأصوات التي تُطالب في منع هذه المؤسسات من العمل داخل الدول الغربية إلا أنها تحصل على 85% من الموازنة الحكومية لدعم مؤسسات الجإلىات العربية. وأكثر من هذا فهي المؤسسات التي تجمع وترسل الأموال دون أن تكون مطالبة بإظهار كشوفات أعمالها للرأي العام، كما أنها تُعد الناطق الرسمي  باسم الجإلىات العربية بالدول الغربية، التي تتعامل بإهمال مقصود لكل المؤسسات الوطنية والقومية للجاليات العربية.
أما النظرة للجاليات العربية في أوروبا من الناحية المجتمعية فهي جإلىات عاملة فاعلة منتجة في المجتمع، وتُعد نسبة التعليم والتوظيف فيها عالية مقارنة مع المهاجرين من بلاد أخرى، كما أنها الأكثر خصوبة بعدد المواليد والمحافظة على القيم الأسرية، لكنها أيضا الأكثر تمسكاً بأوطانها الأصلية حيث أنها تُرسل أكثر من 20% من دخلها إلى أقاربها بالوطن أو حتى مؤسسات اجتماعية وانسانية في أوطانهم الأصلية. ومن جانب آخر فإن أغلب المهاجرين من الجيل الأول منغلقون اجتماعيا في محيط يدور حول الوطن وذكرياته، مما جعل العديد من الدارسين يصنفونهم باللاجئين الاقتصاديين أكثر من السياسيين. أما الجيل الثاني من المهاجرين فهم على حد وصف علماء النفس أنهم يُشكلون قومية مستقلة بلغة مختلطة وعادات مركبة وأحلام معلقة لكنّ ولاءهم للحضارة الغربية عالٍ وتفهمهم لتعددية الثقافية يجعلهم مواطنين غربيين مميزين.
لكن الدول الغربية الرأسمالية تُعاني أمراض الترهل المجتمعي نتيجة اتباع نمط الحياة الاستهلاكي، ومهما قيل عن دولة الآلة وإنتاج التقنية العالية لتخفيض عدد العمال إلا أن المجتمع الغربي يتناقص تعداده بشكل متسارع نتيجة العزوف عن الزواج وقلة عدد المواليد وإرتفاع متوسط عمر الفرد، والحل الطبيعي هو فتح باب الهجرة لسد العجز المحلي بعدد القوى العاملة. إلا أن إرتفاع معدلات الهجرة خلال العقدين الماضيين منح فرصة اختيار نوع المهاجرين القادرين على الاندماج في سياسة التوطين الجديدة. فالمفهوم تغير من أقصى إلى مين الديني الرافض للشيوعية إلى أقصى اليسار والأقرب لأن لا يكون دينياً بامتياز مما سبب في استحداث مفاهيم القيم الثقافية الوطنية المطلوب من اللاجئ الإيمان بها. بل أن دولاً غربية عديدة تقيم امتحانات للمهاجرين الجدد لتأكد أنهم فهموا وحفظوا القيم الثقافية الوطنية، وقد تُبالغ بعض الأحزاب إلىمينية الأوروبية بالمطالبة بإقرار خطي من كل مهاجر أنه لا يعارض زواج مثليين أو الاعتراف بحق اليهود بإقامة إسرائيل، إلا أن أغلب البرلمانات الأوروبية اعتبرت هذا الأمر تعدياً على الحرية الشخصية ومنافياً للقيم الثقافية الوطنية التي تعترف بحق الاختلاف السلمي والتعددية السياسية.
إلا أن الدول الغربية تُصر على وضع المهاجرين في مخازن اللاجئين لفترة قد تستمر لمدة عامين لحين تحويل اللاجئين إلى مهاجرين اقتصاديين قادرين على دخول سوق العمل مع ترسيخ قيم الثقافة الوطنية فيهم، وهي تشمل على تعلم لغة وطنه الجديد والإلمام بالنظم والقوانين العامة للبلاد مع ترغيب المهاجرين للإيمان بالتعدد الثقافي بما فيه المخالف لقناعاتهم مثل التعامل الطبيعي مع المثليين والانفتاح المجتمعي القريب من الإباحية في علاقة بين الجنسين تتجاوز مفهوم الاختلاط بالمدرسة والعمل إلى تقليل أهمية دور الأسرة بتوجيه أبنائهم عند وصولهم سن المراهقة على سبيل المثال لا الحصر. وفي النظر إلى أن أغلب اللاجئين العرب هم قادمون من دول منكوبة بحروب أهلية أو بلاد ذات أوضاع اقتصادية صعبة فهم لا يبدون مقاومة واضحة لهذا النهج في التعامل معهم، إلا أن دراسات عديدة تؤكد أن الجانب الديني هو الأكثر تأثيرا في أي قرار يتخذه المهاجر أثناء وجوده في مخازن اللاجئين في الدول الغربية، والسبب واضح فهو رافض لكل الأفكار السياسية في بلده وكل مناهج التفكير عنده باتت ساقطة في معادلة الحياة، فلقد حاول استخدام العلم والفكر في زمن الحرب لكن الحرب هدمت جزءاً مهماً في إيمان اللاجئ العربي وكل قناعاته هُزمت في زمن انتصار البارود.
في خضم هذه التحولات في فكر اللاجئين العرب يصعب على الدول الأوروبية الغربية التعامل معهم كمهاجرين مقبولين في المجتمع، رغم أن الدراسات العلمية تُثبت أنهم الأفضل انتاجاً مقارنة مع غيرهم من اللاجئين، ومن جانب آخر لا تسعى الدول الأوروبية الغربية لتخزينهم واستخدامهم في حروب مستقبلية، بل إن العديد من الاقتصاديين قرأ عودة اللاجئين للعراق وأفغانستان في أولى سنوات الاحتلال الأمريكي بأنه كارثة على الاقتصاد الأوروبي، وأن هذا الجيل كلّف أوروبا مليارات الدولارات ولا يمكن تركه يعود إلى بلده دون مقابل، بل إن المغريات التي قدمتها الدول الأوروبية الغربية عجّلت من عودتهم لها قبل استعار الحروب الأهلية. وفي جانب آخر ترفض الدول الغربية تجييش مواطنيها في حرب الأخوة بالبلاد المنكوبة، بل أن هناك دول غربية سحبت الجنسية من مواطنين ذوي أصول عربية مولودين في أوروبا لانتمائهم المسلح مع تنظيمات يمينية دينية.
إذن لا يوجد لجوء للدول الأوروبية الغربية بل هي هجرة أبدية لتحوّل إلى مواطن مؤمن بالتعدد الثقافي والقيم الثقافية الوطنية، وهي مثل حذاء سندريلا موجود ومعلوم المقاس لكن كل اللاجئين العرب يفضلون أن يجرّبوا بأنفسهم فقد يكون مناسباً لهم أو أنهم مناسبون له، في تبادلية المنفعة والمصلحة المشتركة، تضغط الدول الغربية على المهاجرين ليخوضوا حرب العبيد فيما بينهم لتحصل أوروبا على مواطنين بأقل كلفة ممكنة، ومن جانب آخر تقطعت السُبل باللاجئ العربي وطال ليل الانتظار لحرية المواطن في بلده، إلا أن الأمل في أوروبا على رغم من كل العراقيل سيكون أوسع من مخازن اللاجئين، وأن الحلم الصغير سيتحقق في بيت آمن بعيداً من الصواريخ التائهة في حرب الأخوةوأن الأطفال سيتعلمون المحبة ويبغضون العصبية، فليس المال ما يسعى له المهاجر العربي- رغم أهميته- بل يريد أن يعيش الحرية ويُمارس الديموقراطية ويهتف للعدالة، دون أن يفقد موروثه الثقافي والديني في معادلة قد لا تعني له الكثير لكنها بالنسبة لراسمي السياسة الأوروبية تعد أهم معضلة تواجه مفهوم المواطنة في أوروبا.