ثمة توأمة حقيقية وثابتة ما بين المنظومة الرأسمالية والمؤسسة الصهيونية، توأمة تقوم على أساس استراتيجي لا يتغير. تلك التوأمة تقوم أساًسًا على الأيديولوجيا المختصرة بأنه "في سبيل تحقيق المشروع لا مكان للعاطفة"، والبعد الإنساني فيها يعيق تحقيق مشاريع الهيمنة والسيطرة في المنطقة والعالم، لذلك- ومن وجهة النظر تلك ينبغي تجاوز كل المؤثرات العاطفية المؤثرة في الرأي العام.
واتصالا بما سبق، نرى في مواقف العديد من الدول الأوروبية جديدًا تجاه القضية الفلسطينية. الجديد- ورغم حدة ردود الفعل الإسرائيلية عليه، لم يرتقِ إلى حد الصدام مع الخطاب الإسرائيلي بالمعنى الجوهري والاستراتيجي. السبب في ذلك يعود إلى قوة الحضور الأميركي في المنظومة الأوروبية- بسبب فقدان الإرادة نظرًا لارتباط ذلك بهشاشة الوضع العربي غير المؤثر على المصالح الأوروبية، لذلك لم ترَ هذه الدول ضرورة للصدام مع الأميركي الثابت على دعمه وحمايته للسياسات الإسرائيلية المتصلة بالأراضي الفلسطينية المحتلة والتسوية بشكل عام.  
الكيان الصهيوني- الذي صادر اليهودية بكلّ إرثها وتاريخها ومعاناتها بنجاح، استطاع أيضًا استثمار المحرقة، بصفتها الحجة الأبلغ والأثمن في التاريخ، كي يصبح السلوك الإجرامي الصهيوني- بكل تجلياته وتمادياته تحت سقف ما تعرض له اليهود على أيدي النازيين الألمان، وتصبح بالتالي أفعاله وجرائمه مبرَّرة في أبعادها الأخلاقية والقانونية- أي أن الصهاينة باتوا فوق القوانين والأعراف والقيم الدولية. وفوق ذلك أصبح كل منتقد للمشروع الصهيوني وسياساته الظالمة بحق الشعب الفلسطيني- من خلال التهم الصهيونية الجاهزة والمسلطة على رقاب العالم، والتي تعتبر كل منتقد لسياساتها شريكا في معاداة اليهود- السامية- وبالتالي فهو يحمل في جيناته بذرة نازية التي توجب عليه التبرؤ منها من خلال الكف عن انتقاد المشروع الصهيوني والتساوق مع مجرياته كيفما وأنى ذهبت. لذلك لا يفاجئنا أبدًا خطاب الحكومة الإسرائيلية الممجوج والمثقل بالعجرفة والتعالي على كل منتقد أو معترض، كون إسرائيل خارج دائرة المساءلة والمحاسبة في العالم، رغم أنها الكيان الإستعماري الوحيد المتبقي في هذا العالم.
المشروع الأمبريالي الأميركي هو منهجيًا متوازٍ مع المشروع الصهيوني في تظرته للآخر المعترض على السياسة المترجمة عدوانًا على الشعوب الأخرى كيفما وأينما حلَّ هذا المشروع. وكي لا نبتعد كثيرًا علينا التذكير الدائم بكيفية نشأة الولايات المتحدة الأميركية على انقاض شعب آخر تمت إبادته. وللتأكيد أكثر: هناك توازٍ أخلاقي في نظرة السياستين- الصهيونية والإمبريالية- تجاه كل معترض عليهما.
والأهم في نظرة الولايات المتحدة للمجتمعات العربية تصنيفها من منظور قبلي- عشائري وبدائي، حتى ما يسمى البعد الديني والمذهبي يتم عكسه سلوكيًا وفق هذا المنظور. والذي يؤكد ذلك هو تلك العلاقة المنهجية السلبية بين أطياف المنطقة ومكوناتها الإجتماعية بطريقة تبدو تناقضاتها الرئيسة مرتكزة على العصبيات أكثر من ارتكازها على الإختلاف الثقافي أو على قضايا كبرى بحجم يستحق الحشد والتجييش. لذلك فإن أي مبادرة أميركية تطلق بخصوص أي أمر في المنطقة لا بد وأن تأخذ في الإعتبار هذا البعد كمنطلق رئيس في إنتاج سياسة تتناسب والأهداف الصهيو- اميركية... كوننا شعوباً تعمل على الصدمة والإنفعال الذي يصل حدود المبالغة غير الواقعية... أي على تغليب وإطالة أمد الصراع فيما بيننا، في الوقت الذي لم تخض فيه أمتنا العربية حرب استنزاف حقيقية مع العدو منذ العام 1970، فيما نتوارث فيما بيننا عداوات مؤبدة عمرها مئات وآلاف السنين.
بعد الذي سبق علينا الخروج بخلاصة محددة وبسيطة تتلخص بالتالي: لنكفَّ عن انتقاد السياسة الأميركية الراعية والداعمة والحامية للمشروع الصهيوني... لا فرق بينها وبين الصهيونية... فهل يخطط الصهاينة لاخراج الشعب الفلسطيني من أرضه من خلال استمرار سياسة التضييق والخنق والجرائم المتكررة والمتناسلة؟
يعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي أن "لا مجال مطلقًا للتفكير في دولة ديموقراطية ثنائية القومية في إسرائيل". وبذات الوقت يطالب وزير الخارجية الأميركي بأن "تعترف الحكومة الأميركية بالمستوطنات المقامة فوق أرض الدولة الفلسطينية- أي الضفة الغربية والقدس". وإذا كان جيشه يحتل الضفة الغربية ويقيم كيانه الحديدي فوق الأراضي التي احتلت عام 1948- وفي كلا المجالين الجغرافيين الفلسطينيين يوجد الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني، حيث يرفض إنهاء الإحتلال ويرفض إقامة الدولة ثنائية القومية، ماذا يريد إذًا؟
الذي يريده نتنياهو واحدًا من اثنين: إما دولة يهودية صافية لا يتقاسمه أحد فيها، تقوم على تهجير منهجي للشعب الفلسطيني- إن استطاع ذلك، وإما حصره في معازل جغرافية لا مجال أمامه للتفكير بدولة أو بحد أدنى من الحرية، حيث قوارض الإستيطان تلتهم كل شبر من الأرض العائدة لأبناء الشعب الفلسطيني، محمية من جيش وأمن وقوانين عنصرية لا تعير للإنسانية حسابًا.
بناء على النظرة الإسرائيلية للواقع العربي: لا خوف من جيوش عربية تهدد أمن إسرائيل وتفوقها الكاسح على العرب مجتمعين... وحتى عقود طويلة من الزمن. وبناء على المجزرة الكيانية والإنسانية التي تكتسح العديد من الأقطار العربية وإسهام بعض السلطات العربية في مساراتها وتأجيج نارها، أصبح الملف الفلسطيني خارج دائرة الإهتمام الرسمي العربي- أللهم إلا خجلا... فيما أصبح مجازًا كسر طوق التردد والإنكار الذي كان معتمدًا في السابق حول علاقات بعض الأنظمة العربية بالكيان الصهيوني، فرفع الكلفة تجاه هذه المسألة بات طبيعيا لأنه لا يكلف أصحابها نقدًا أو شعورًا بالخيانة لأعدل قضايا العصر- القضية الفلسطينية. نعم: هناك من يرى بأن إسرائيل قد تكون داعمًا فعالا لهذه الجهة أو تلك عملية الصراع المحتدمة في المنطقة والمؤسسة لواقع جديد يختلف كثيرًا عن خارطة سايكس- بيكو التي تعاملنا معها بصفتها مؤامرة على الأمة العربية.
إذا أمعنا النظر جيدًا نرى أن التطرف كحالة تستهدف العديد من البلدان العربية تمثل مصلحة إسرائيلية صافية. فإذا ما ربطنا المسألة بمطلب نتنياهو الدائم حول تشديده على مطلب الإعتراف بيهودية إسرائيل بصفتها الوطن القومي المرادف لملطب إقامة الدولة الفلسطينية، رغم ديماغوجية خطاب نتنياهو حيال مطلبه الآنف الذكر، كونه يخلط ما بين القومية والهوية الوطنية وبين الدين، إلا أن المطلب بذاته يعني الذهاب بعيدًا في خطابه العنصري لتشريع العلاقة التمييزية ما بين اليهود وغير اليهود على أرض فلسطين التاريخية. طغيان البعد الديني في المنطقة مرتبط فرضيًا – من وجهة النظر الإسرائيلية- بالصراع القائم وهو ما يمنح العدو مادة دسمة لتبرير سياساته الإقصائية العنصرية ضد الشعب الفلسطيني. التمادي في التطرف يسهم في تشدد السياسة الصهيونية لأن حكومات العدو دأبت ومنذ أمد بعيد على إبقاء عامل الخوف فاعلا في صياغة الرأي العام الإسرائيلي كمادة رئيسية يستثمرها اليمين المتطرف لتبرير سياساته العدوانية ورفضه "التنازل" عن حقوق الفلسطينيين. وإذا ما ربطنا ذلك أيضًا بطريقة مواجهة حكومة العدو للسلطة الفلسطينية التي نحجت إلى حد كبير في فضح السياسة الإسرائيلية، نجد أن الإعتدال أكبر أعداء حكومات إسرائيل على الإطلاق، كونه يعرّي هذه الحكومات من ادعاءات خاوية وكاذبة حول الديموقراطية وحقوق الإنسان ويؤكد على أن إسرائيل دولة احتلال وتمييز عنصري.
حتى مسألة إنشاء "جيش إسلامي سني" تحت عنوان "محاربة الإرهاب" أين يقع المشروع الصهيوني منها وما هو دور هذا الجيش، حتى لو كان الأمر لم يتعدَّ الفكرة التي تتزعمها العربية السعودية... مع تأكيدنا المسبق بعدم جدية وفعالية الفكرة؟
فمسمى الإرهاب واسع ومتشعب ولا إجماع على تصنيف من هو إرهابي ومن هو مقاوم. ولا إجماع على خارطة سياسية تعيد تشكيل المشهد العربي بالطريقة التي تؤسس لمصالح حقيقية وتسويات ثابتة في الجغرافيا والإجتماع. وإذا كانت الولايات المتحدة تسعى من عبر فكرة "الجيش الإسلامي السني" إلى إفقار العديد من الدول العربية والإسلامية من خلال صفقات تسلح غير فاعلة، وإلى الزج بالعديد من الدول في صراعات لا تنتهي ولا تصنع انتصارات تاريخية خالصة النتائج للعرب والمسلمين، بل تذهب بعيدًا في تفتيت وتجزئة المجزّأ العربي والإسلامي بحيث لا نصل لغير الهزيمة الجماعية التي تزيد واقعنا الهش انكشافًا وتمزقًا.
كل ما يحصل وسوف يحصل- ومن وجهة النظر الصهيونية هو حرب بالوكالة عن إسرائيل، وتحقيق لأهدافها الإستراتيجية بما يفوق ما كانت تتمناه بأضعاف.
من المستحيل بمكان نجاح فكرة "الجيش الإسلامي السني" والأكثر استحالة في الأمر أن يكون لهذا الجيش منفذًا إلى الصراع مع دولة الإحتلال الصهيوني. فمن جهة هناك مصر والأردن اللتان تقيمان معاهدات سلام مع إسرائيل. وهناك تركيا التي تربطها بإسرائيل علاقات تاريخية وإسترايجية... ناهيك عما هو تحت الطاولة وحولها من ارتباطات عميقة وثابتة مع حكومات العدو المتتالية. إضافة إلى ما سبق فإن مهمة هذا الجيش الإسلامي- إن تشكَّل هذا الجيش- لا تتعدى الدور الموضعي- الداخلي- أي أنه يزخم الصراع السني الشيعي من خلال تصدّيه للدور الإيراني في المنطقة، وبالتالي يذهب باتجاه الحرب بالوكالة- أي حرب بالنيابة عن الأميركيين ضد الروس... وتلك مطحنة لا مجال فيها لبشرى بنصر أو مكسب... لأن المنتصر هو صاحب المشروع وراعيه وليس دافع فاتورة الدم والمال. هل يستطيع هذا الجيش- إن وجد- خوض حرب شمولية على القوى المصنفة "إرهابية" حزمة واحدة؟ هل ينحصر دور هذا الجيش في محاربة القاعدة وداعش؟ بالطبع للسعودية والعديد من دول الخليج تعريف أشمل وبالتالي سيكون دور هذا الجيش ملتبسًا جدا، خاصة وأن بين القوى المصنفة إرهابية من وجهة النظر الخليجية وبعض الإسلامية قوى مقاومة للمشروع الصهيوني. ثم ان البنية الثقافية الخليجية سوف تدخل بالتباس أعمق في نظرتها ومواجهتها للإرهاب بسبب وجود علاقات مع اطراف وقوى مصنفة إرهابية وتمارس الإرهاب من وجهة النظر الأخرى...
لا يستطيع الفلسطينيون أن يكونوا إلا عربًا، وبالطبع من المستحيل أن يتبرّاْوا من البعد الإسلامي الحاضن والداعم لهم، فيما الخطورة تكمن في مساعي بعض الدول جلب القضية الفلسطينية إلى مستنقع الصراعات البعيدة عن فلسطين وقضيتها وبالتالي إغراقها في دوّامة ضياع لا قرار لها، تبعدها عن مجال صراعها الأصلي وتبدّد تضحياتها الغالية على امتداد تاريخ من الكفاح ضد المشروع الصهيوني.
ولأن الأمر كذلك، علينا أن نشهد ببسالة وإصرار القيادة الفلسطينية الشرعية- حصرًا- على إبقاء شعلة المواجهة مع المحتل الصهيوني متقدة ودائمة ومتشعبة كي لا يتمكن من فرض معادلة الإحباط والترهل على الميدان الفلسطيني ويسهّل بالتالي على المشاريع العابرة والمستثمرة من العبور إلى معقل القضية ومحرابها.
ولأن الواقع المحيط بفلسطين وقضيتها متخلٍ ومنشغل بشؤونه الداخلية- وهذا وصف حقيقي ودقيق، فإن الرئيس محمود عباس بوصفه ما يجري فوق الأرض الفلسطينية ب "الهبّة" الشعبية ذلك لأنه يعرف جيدا قساوة الواقع المحيط ورغبة العديد من المراجع العربية ب "لفلفة" مسألة تفعيل الصراع مع العدو في هذه الفترة- على الأقل- للتفرغ لما هو أهم من وجهة نظرهم من صراع تاريخي بعيد وعميق، وبذات القدر يعرف وحشية العدو واستعداده للذهاب بعيدا في عمليات القمع والقتل المنهجي والعشوائي دون حسيب أو رقيب. فيما "مشاغلة" دولة الإحتلال، من وجهة نظر القيادة الفلسطينية، ضرورة تلغي وتبدّد أية ضرورة سواها، إنما بكلفة لا تصل إلى كسر الظهر- كالانتفاضة السابقة. فتعريف ما يحصل الآن ب " الهبَّة الشعبية" هو العنوان الموفق والمناسب للمرحلة الحالية.
ولأن الواقع قاس ومتشعّب الحسابات والقراءات، على البعض أن يكفّ عن إثارة العصبيات وقرع طبول الإتهامات والتخوين، وبالتالي عليه الإمعان جيدًا بدقة وحساسية المرحلة التي تخضع القضية الفلسطينية لقوانينها وأبعادها. فتبريد مناخ العلاقات الفلسطينية الداخلية ضرورة تقتضيها المرحلة الحالية نظرًا لمردودها السلبي على المصلحة العامة ولأن التمادي في توتير هذه العلاقات في الظروف العربية والدولية الراهنة هو مكسب صافٍ للعدو الذي غالبًا ما يمر من ثقوب العلاقات الداخلية وشقوقها.
إن القضية الفلسطينية تنهض وتزدهر حين يسود السلم بين مكونات مجتمعاتنا العربية، وتضيق مساحة المناورة والفعل في زمن التناحر والتقاتل- كالذي يحصل الآن في العديد من الأقطار. فمواجهة التطرف والإرهاب- بمعناه الحقيقي يشكل حصانة ومنعة لفلسطين. ويسهم في فضح المشروع الصهيوني وتماديه الإجرامي- في أبعاده القانونية والإنسانية والأخلاقية. كلما حصلت مجزرة أو عملية قتل في مجتمعاتنا- أيا كان الفاعل- فإن ذلك يسهم في عملية غسل وتنظيف العار الصهيوني من الذاكرة الإنسانية.
إن واقع القضية الفلسطينية- وللأسف- يخضع لعملية صراع حقيقية مع الوقت، حيث العقل الجمعي الإسرائيلي يرفض فكرة الإعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وينكر عليه حقه في دولته المستقلة، ويترك غلاة الصهاينة وقادة المستوطنين يديرون دفة المرحلة حتى أقصاها... لا دولة فلسطينية ولا دولة ثنائية القومية... يريد الصهاينة إحالة الواقع- الواضح والمبهم- على الوقت، أي على الظروف المناسبة لضربة قاضية تاريخية تبدد الحق الفلسطيني وتفرض الواقع الذي يقاومه شعب فلسطين منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن.
الفلسطينيون ليسوا في جزيرة منعزلة عن شظايا البركان المتفجّر في المنطقة، لكن من حقهم التمترس وراء مصالحهم التي في طليعتها قضيتهم الوطنية. لذلك لن يكونوا إلا في الموقع الذي يمثل مصلحة الشعب وقضيته من خلال القيام بدور الدافع الإيجابي الهادف إلى فكفكة العقد العربية والإسهام في فتح آفاق الحوار والتواصل الذي يعيد للقضية حاضنتها ومكانتها العربية والإسلامية... نعم الفلسطينيون بحاجة إلى الدعم القوي والدائم لأن مشروع التطرف الصهيوني بالنسبة للفلسطينيين أعمق وأخطر بكثير من مشاريع الآخرين... لأنه المشروع الذي تناسلت منه مشاريع التطرف كلها. تستحق فلسطين تواضع الجميع...