خاص- مجلة القدس- العدد السنوي 322 / حـوار:ولاء رشيد
عامٌ جديد يُضاف للسنوات الخمسين من عمر انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصِرة والنضال الفلسطيني يتواصل بشتى الأساليب في الوطن والشتات. وعلى مر السنوات عرفَت الثورة الفلسطينية محطاتٍ نضاليةً عدة كان لأشقائنا اللبنانيين فيها دورٌ فاعلٌ ساهمَ في إغنائها فكرياً وعملياً. وحول واقع العلاقة الفلسطينية اللبنانية على المستويات كافة وسُبُل تمتين أواصرها والدور اللبناني في محطات الثورة الفلسطينية كان لنا هذا اللقاء مع عضو المجلس الثوري لحركة "فتح" جمال قشمر.

مرّت العلاقة الفلسطينية اللبنانية بمراحلَ مختلفة تأثّرت بعوامل عدة، فكيف تصف واقع هذه العلاقة اليوم؟ وكيف يمكن برأيك العمل على تحسين أواصرها؟
لا شكّ أن العلاقة اللبنانية الفلسطينية علاقة متجذّرة منذُ ما قبل النكبة وحتى اللحظة السياسية الراهنة، إلا أن المرحلة الاهم كانت في مرحلة الثورة حيث تحوّل اللبنانيون لشركاء فعليين في معركة تحرير فلسطين، وهذا الإرث في العلاقة من مرحلة النكبة والثورة شكّل قاعدةً في العلاقة اللبنانية الفلسطينية. أمّا في اللحظة السياسية الراهنة فيمكنُ الحديث عن العلاقة الفلسطينية اللبنانية على مستويات ثلاثة، هي: المستوى الرسمي والمستوى الحزبي، والمستوى الشعبي.
على المستوى الرسمي، استطاعت العلاقة الفلسطينية اللبنانية أن تنتظم كعلاقة شرعيتَين، وتوِّجت باعتراف الدولة اللبنانية بدولة فلسطين وتحويل مكتب منظمة التحرير الفلسطينية الى سفارة لدولة فلسطين، وأصبحت العلاقات تمرُّ عبر هاتَين الشرعيّتَين، إلا أنه في الوقت نفسه اعترت هذه العلاقة إشكاليّات كبرى، أولهها أن الدولة اللبنانية رغم إقرارها بالحقوق الشرعية والمشروعة للفلسطينيين اللاجئين في لبنان، إلا انها لم تحوّل هذا الموقف السياسي الى حقائق واقعية، إذ ما زال الفلسطينيون يعانون من قضية حرمانهم من حق التملُّك وحقّهم في العمل. وقد بيّنت الوقائع تاريخياً أن الفلسطينيين مهما تغيرّت ظروفهم فإنهم لا يمكن أن يرتضوا وطناً بديلاً لهم عن فلسطين، وقد مرّت مرحلة سُمح خلالها للفلسطيني بتملُّك شقة سكنية في لبنان، فهل سعى الفلسطينيون الى أكثر من احتياجاتهم في السكن؟! وهل نسي من أقاموا في شقق سكنية قضيتهم وتنازلوا عنها؟! بالعكس تماماً، وهذا أمر يعرفه الجميع. من جهة ثانية، لا يخفى أن الواقع الفلسطيني واقع صعب حيثُ أن الاكتظاظ السكاني في المخيّمات والبطالة والأزمات الاجتماعية كلها تقود الى حالة الفقر، ومن المعروف أن الفقر والبطالة بيئة محفّزة لكل ما هو سيّئ ومشبوه في المجتمعات وولّادتان طبيعيّتان للأزمات، وبرأيي هما أهم  أسباب نمو الحالات التكفيرية في المخيمات، وفي هذا السياق نستذكر قول الإمام علي رضي الله عنه "لو كان الفقر رجلاً لقتلته"، ومن هنا أدعو الدولة اللبنانية لتحويل نواياها الصادقة لأفعال حقيقية لأننا نحن وإيّاها متضررون من البيئة التي تعيش فيها هذه الجماعات التكفيرية، حيثُ إن المواجهة الأمنية والعسكرية لهذه الحالات غير كافية وإنما ينبغي تجفيف البيئة الحاضنة لها عبر الحد من ظاهرة البطالة والفقر والاكتظاظ السكاني في المخيم. لذا فلجنة الحوار اللبناني الفلسطيني مدعوةٌ لتقديم انجاز فعلي على مستوى عملها، وعدم إبقاء الامور في الإطار النظري، خاصةً أننا كفلسطينيين كنا متعاونين لأقصى الحدود في حماية السِّلم الاهلي في لبنان، وتعاونّا مع الدولة اللبنانية ومع جميع أجهزتها العسكرية والأمنية لمنع استخدام مخيّماتنا كنقطة انطلاق لضرب السِّلم الاهلي في لبنان او ضرب العلاقات بين المخيم والجوار، وكنا صادقين في ذلك من أجل قضيتنا الفلسطينية ومن أجل لبنان الذي احتضننا لاجئين ومناضلين، ومن اجل الاستقرار الذي هو مصلحة فلسطينية لبنانية مشتركة، كما قدّمنا في سبيل ذلك خيرة أبنائنا وضباطنا وكوادرنا وكان آخر هذه الرموز الكبيرة الشهيد العقيد طلال الاردني.
أمّا العلاقة مع الاحزاب اللبنانية فهي في المجمل علاقة ايجابية تكاملية خاصةً مع الاخوة في حزب الله وحركة أمل، والسبب طبيعي جداً، فهناك من يحاول إثارة فتنة شيعية سنية ويحاول أن يجعل أداة التفجير فلسطينية، كما فعلوا عندما دفعوا بأحد الانتحاريين من البيسارية سابقاً، وعندما سارع مشغلو الانتحاريين في تفجير برج البراجنة الأخير للإعلان عن كون الانتحاريين فلسطينيين، وهذا يؤكّد بما لا يقبل الشك أن المطلوب فتنة فلسطينية شيعية تضرب القضية الفلسطينية في العُمق وتستنزف قوانا في معركة لم نخترها يوماً ولم نتوجّه اليها. فنحن معركتنا كانت دائماً وستبقى مع العدو الصهيوني. وبفضل هذه العلاقة مع القوى والمرجعيات الشيعية والروحية استطعنا وأد الفتنة في مهدها، وتعاونّا منذ اللحظة الأولى في كشف زيف الادعاء بأنّ الانتحاريَين فلسطينيان،كما قمنا بـتأمين وحدات دم في مستشفياتنا، ووضعنا مستشفياتنا وأطقمنا الطبية كافة في خدمة الجرحى، واصدرنا بياناً سياسياً، وتواصلنا مع بلدية برج البراجنة، وزرنا مكان الانفجار تأكيداً على اللُّحمة اللبنانية الفلسطينية علمًا أن بين الشهداء 3 فلسطينيين. وبدوره كان التعاطي اللبناني إيجابياً، وكان الموقف الأوضح للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصرالله الذي أكد انه حتى لو كان هناك فلسطيني قام بهذا العمل فليس جائزاً أن يكون رد الفعل موجّهاً ضد كل الفلسطينيين، ودعا لتفويت الفرصة على المتآمرين والمشعلين لنار الفتنة. أيضاً موقف رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري صبّ في هذا الاتجاه.
ولكن رغم العلاقة القائمة مع كافة الاحزاب اللبنانية عموماً، لا بدَّ من الإشارة لحاجتنا لتطوير العلاقة مع القوى والاحزاب والمرجعيّات المسيحيّة لأننا غادرنا منذ زمن طويل مرحلة الفتنة أو الحرب التي اندلعت العام 1975، من خلال ما عُرِف لاحقاً بإعلان بيروت، وفي ظل التجاذب الداخلي اللبناني كنا نمارس سياسة الحياد الايجابي ولم ننخرِط في محور ضد آخر، ووضعنا أنفسنا في خدمة هذه القوى، وحاولنا في أكثر من محطة أن نكون جسر اتصال وتواصل بينها، ونلحظ أنه خلال جميع مناسباتنا تكون هناك كلمات لأحزاب وقوى لبنانية إسلامية ولكن يندر وجود كلمات لمرجع أوحزب مسيحي، وهذه نقطة ضعف من واجبنا العمل عليها مع بداية العام الجديد، خاصةً أن العلاقة والمواقف تطوّرت بما يسمح بالمزيد من التواصل والانفتاح خاصةً ونحن نخوض الآن على ترابنا الوطني معركة القدس، وعندما نقول القدس نقول المسجد الاقصى وكنيسة القيامة، وفي هذه المعركة ليس المسلمون وحدهم معنيين بالمساندة وإنما المسيحيون ايضاً، وقد عبّروا في اكثر من مناسبة عن احتضانهم ودعمهم وتأييدهم للمقاومة الشعبية.
وبالنسبة للعلاقة على المستوى الشعبي، نلاحظ من انتشار المخيمات أنها كلها مُحاطَة بقرى ومدن لبنانية، مما يعني وجود احتكاكٍ يومي في مجالات الحياة كافة، وهذا يستدعي علاقاتٍ وتواصلاً دائماً ومستمراً بين المخيم وجواره اللبناني في كل المناطق، لا أن ننتظرَ حصول حدث سلبي حتى نعمل على تطويقه، بحيثُ يكون هناك عمل وقائي يعزّز العلاقات بدءاً من المستوى الشعبي على سبيل المثال بين اللجان الشعبية والبلديات، وبين الأندية الرياضية في المخيمات والاندية الرياضية في القرى والمدن، وكل أشكال النشاط النسوي والشبابي والطلابي والثقافي وغيره، لأن هذا الاحتكاك الدائم إذا كان ضمن برنامج ومشروع هادفٍ فإنه يمكن ان يخفّف الكثير من التشنُّجات، ويوفّر رصيداً إيجابيّاً في العلاقات هو في حد ذاته يساهم في وأد اي فتنة يمكن ان تستهدف العلاقات بين الشعبَين الشقيقين اللّذين تعمّدت علاقتهما بالدم وشكّلت نموذجاً في عُمق العلاقات العربية لثورتنا الفلسطينية المعاصرة.


استقطبَت الثورة الفلسطينية على مر السنوات مناضلين ووطنيين من مُختلَف الأقطار العربية وخاصةً لبنان الذي كان لمشاركته دورٌ كبير في تقوية عضد الثورة، فهل لك أن تفصّل في هذا الدور؟
الحديث عن الدور اللبناني في الثورة الفلسطينية يتطلّب استعراضَ أكثر من مرحلة. المرحلة الأولى، هي قبل مجيء الفدائيين الى لبنان وتحديداً مع انطلاقة الثورة الفلسطينية، حين ذهب المناضلون من لبنان الى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقاتلوا في ما عُرِفَ في ذلك الزمن بقواعد الارتكاز التي أقامتها الثورة الفلسطينية، وأبرز هؤلاء المناضلين المناضل موسى فوّاز من بلدة العبّاسية الذي قاتل وأُسِر وأمضى 18 سنة في سجون الاحتلال، وقد تغمّده الله بواسع رحمته منذ بضعة أشهر. أمّا المرحلة الثانية فهي عندما خرجت الثورة الفلسطينية بعد حرب العام 1967 الى الاردن، وتحديداً بعد معركة الكرامة، فاندفع اللبنانيون للانخراط في صفوف الثورة الفلسطينية، وكان أول شهدائهم ابن بيروت الشهيد خليل عزالدين الجمل. لكن المشاركة الأكبر والأوسع والأعمق كانت مع دخول الثورة الفلسطينية الى جنوب لبنان العام 1969، وهنا كان الموقف الشعبي اللبناني المؤيّد والحاضن للثورة الفلسطينية وللفدائيين هو جسر عبور هؤلاء الفدائيين الى جنوب لبنان، حيث وقف اهل الجنوب في مواجهة جيشهم الذي حاول منع الفدائيين من إقامة قواعد لهم في جنوب لبنان، إضافةً لموقف الاحزاب الوطنية في ذلك الوقت، وكون حركة "فتح" كانت قد بدأت علاقات تنظيمية للراغبين في الانخراط في صفوفها، فكان الانخراط في صفوف الثورة الفلسطينية باكراً والمشاركة في عمليات قتاليّة ونضاليّة بحيث أنكِ لو زرتِ اليوم أي قرية من قرى الجنوب لوجدتِ في كل قرية كوكبة من الشهداء اللّبنانيين الذين ارتقوا في صفوف الثورة الفلسطينية، واستمرّت المشاركة اللبنانية بأعداد كبيرة أغنَت التجربة الفلسطينية، وكانوا جسر تواصل بين الفدائيين وبين جماهير الشعب اللبناني، وبقي هذا الدور قوياً وفاعلاً ومؤثّراً حتى أثناء الحرب الاهلية في لبنان، إذ ان الكثيرين ساندوا الثورة الفلسطينية ودافعوا عنها أمام ما تعرّضت له من مؤامرة في تلك المرحلة، وكانت آخر المحطات العام 1982، حيث شارك هؤلاء الاخوة في معركة المواجهة مع الغزو الصهيوني، وقدّموا الكثير من الشهداء، وفي مرحلة لاحقة أدوا دوراً اساسياً في العمليّات التي استهدفت الصهاينة بعد احتلالهم لمعظم لبنان وقدّموا خلالها العديد من الشهداء.
وبعد هذه المرحلة انخرط مناضلون لبنانيون كثر كانوا في الثورة الفلسطينية في أحزاب وقوى لبنانية صاعدة خاصةً في حزب الله، وفعلياً لم يبقَ الكثير من اللبنانيين الذين قاتلوا في صفوف الثورة الفلسطينية وصفوف حركة "فتح" لاعتبارات عديدة، أولها أن النضال الفلسطيني لم يعد موجوداً على الساحة اللبنانية في مواجهة الاحتلال بشكل فاعل ومؤثرّ، وكونهم تعرّضوا لملاحقات عديدة، إضافةً إلى أن هؤلاء الأخوة لحقهم كثيرٌ من الإهمال من قِبَل القيادة الفلسطينية وحتى الذين بقوا إلى هذه اللحظة يعيشون هذا الاهمال رغم اهمية دورهم في العلاقة اللبنانية الفلسطينية، ولكنهم ما زالوا متمسّكين بمبادئهم ثابتين على مواقفهم ولم يبدّلوا تبديلا.


برأيك ما المطلوب اليوم من الفلسطينيين على كافة المستويات في الوطن والشتات لدعم المقاومة الشعبية؟
بدايةً فإن هذه المقاومة الشعبية المستمرة، والتي تطوّرت في أساليبها النضالية في الأشهر الاخيرة، هي رد طبيعي على كل سياسات الاحتلال الإسرائيلي التي حاول من خلالها اسقاط روح اتفاق اوسلو المتمثّل بحل الدولتَين، والذي تصاعد في عدوانه الى حد التلذُّذ في حرق الفلسطينيين وقتلهم، ووصلت الامور الى المسجد الاقصى وما له من مكانة لدى شعبنا في محاولة لتقسيمه زمانياً ومكانياً، وصولاً الى المشروع النهائي وهو هدم الاقصى وإقامة الهيكل المزعوم، خاصة ان الصهاينة لا يتركون فرصة إلا ويأكّدون خلالها أن القدس عاصمة أبدية للدولة اليهودية. وأمام هذا الواقع كان لا بدّ لشعبنا ان يرد على هذا التحدي ليثبت قدرته على استنباط أساليب نضالية جديدة تجعل الاحتلال مُكلِفاً. وبالتالي الوفاء لهؤلاء الشهداء والجرحى والمقاومين ولشعبنا يفترض منا الأمور التالية: أولاً، الدعم غير المحدود لهذه المقاومة وتبني شهدائها وجرحاها وإعادة بناء كل بيت ينسفه الاحتلال، وتعهُّد عائلات الاسرى والمعتقلين. ثانياً، عدم العودة الى المفاوضات إلا بسقف زمني محدّد ووفقاً للقرارات الدولية التي تحدّثت عن دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران وبمرجعية جديدة واضحة إذ لم يَعُد مقبولاً أن تكون الولايات المتحدة الامريكية راعيةً للمفاوضات لأنّها طرف منحاز بالمطلق للعدو الصهيوني. ثالثاً، حماية الوحدة الوطنية الفلسطينية، ورغم الجرائم التي تركها الانقلاب وممارساته والاستمرار في سياسات التشكيك وعدم الالتزام ببنود المصالحة، إلا أننا مطالَبون بالاستمرار في البحث عن أشكال من التعاون والتنسيق وخاصةً في موضوع المقاومة التي تستدعي تعاون الجميع لانجاحها. رابعاً، التنبُّه الى ان قوة المقاومة في طبيعتها الشعبية، لذا فإن مقتَل هذه المقاومة عسكرتها، ولهذا نحذّر من أي محاولة او مغامرة يمكن أن يُقدِم عليها البعص لأنها لن تكون الا في خدمة العدو الاسرائيلي. خامساً، تكثيف نضالنا السياسي والدبلوماسي، بالتوازي مع الانتفاضة، لفضح ممارسات الاحتلال ومقاطعته داخلياً وخارجياً خصوصاً بعد المواقف الاوروبية التي طالبت بوسم منتجات المستوطنات وتعرية هذا العدو في جرائمه وممارساته باعتبار احتلاله وممارساته تشكّل العنوان الأبرز للارهاب المنظّم "ارهاب الدولة". واذا كان العالم يحشد اليوم قوى ودولاً لمحاربة داعش وما تمثّله من ارهاب، فعلى هذا العالم ان يعلم ان هناك ارهاباً اخطر على الامن والسلم العالمي هو ارهاب دولة إسرائيل في احتلالها للأرض الفلسطينية وعدوانها الدائم والمستمر على الشعب الفلسطيني.


هل من كلمة أخيرة بمناسبة انطلاقة الثورة الفلسطينية؟
إذا كان هناك من كلمة نقولها ونحن على مشارف العام الـ51 للانطلاقة فإننا نؤكّد للمقاومين أن حركة "فتح" كانت ومازالت وستبقى منهم وبينهم، ولن تُسقِط راية النضال الوطني بكافة أشكاله حتى يتحقّق حلم أجيالنا بدولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
تحية ًللشهداء وللجرحى وللأسرى، وعهدنا أن نستمرَ بالثورة حتى النصر.