اعتمدت منظومة الاحتلال الاستعمارية الصهيونية على مجموعة ركائز، مكنتها من اختراق مقومات الثقافة والبنية الشخصية الفردية والجمعية لمجتمعاتنا العربية بصفة عامة، والفلسطينية، خصوصًا مع الأخذ بالاعتبار الفارق في نسب الاختراق ونتائجه، في كل دائرة مقارنة مع الأخرى، ومنها الاتكال المقطوع مع العقل، والتفكير وحسن التدبير، أما المعرفة؛ فتبدو كالمحرمات، لا يجوز التعامل معها، أو النظر إليها أو مجرد التفكير بالبحث عن سبل الوصول إليها، فأمور الإنسان وفق المفاهيم الدخيلة، مرتبة سلفًا، وتحديدًا فيما خص الرزق والفقر، والاستقرار والرفاهية، ونقيضهما الضياع والمعاناة والمآسي، والصحة النفسية والبدنية، والمرض والعلل الموروثة والمكتسبة، وحدث كل هذا بسبب تعميم مفاهيم حضت على استبعاد العقل، وإغفال مبدأ تفعيل قدراته، واعتبار منطق الحسابات العلمية مكروهًا إن لم يحسب في دائرة المحرمات عند فئات ليست قليلة. وتضييق زاوية المعرفة، وحصرها في مجال معين، صمم بعد العبث به بالتزوير والتحريف للإطباق على نفس وبصيرة المرء، حتى بات الفعل الوحيد على جدول أعمال حياته الفردية والعائلية، وحتى المجتمعية، وانسحب الأمر كذلك على النصر والهزيمة، في المعارك المصيرية والوجودية مع الغزاة والمحتلين، وعلى الفوز والخسارة في المنافسات الفردية والجمعية، وبذلك أخلى المرء نفسه من المسؤولية، وبات عاجزًا عن محاسبة المسؤولين عن مآل حاضره ومستقبله المتراجع باستمرار، حتى سقوطه في قاع الكارثة، بقوة دفع المشعوذين.
إلى هنا قد تبدو المصيبة نتاجًا طبيعيًا لقرون من تجهيل متعمد متتابع، عبر مشاريع استعمارية حُمِّلَت شعارات دينية وأخرى دنيوية مغرية. لكن المصيبة الأعظم كانت ببروز جماعات وكيانات، بالتوازي زمانيًا مع تهيؤ الدول الاستعمارية الكبرى لاقتسام بلاد الوطن العربي والسيطرة على ثروات الأمة، ومنح المنظمة الصهيونية مقومات تشكيل كيانٍ سياسيٍ باسم اليهود، كانت ذات الإمبراطوريات والدول الاستعمارية قد اتفقت على إنشائه في سنة 1905 - حسب وثيقة كامبل –ورُفِعَت قواعد وأركان هذا الكيان (إسرائيل) تدريجيًا تحت سمع وبصر المسيطرين على البلاد، والعباد الذين جردوا من القدرة على تقرير مصائرهم، وذلك عبر تعاميم حرمت مخالفة إرادة ورؤية السلطان المعصوم، الذي استعان بوجوه وأسماء روجت لإلهامه ومنابعه المقدسة، إلى أن ابتليت الأمة بجماعة الإخوان المسلمين، حيث تسللت "بعباءة الدعوة" إلى قلعة الشعوب العربية التي بدأت تبرز فيها ملامح التنوير والتعقل والحكمة، وتسييد قواعد وقوانين العلم في بناء الإنسان والوطن، في مجالات الحياة كافة، التي كان لا بد أن تؤسس على قيم أخلاقية فردية ومجتمعية، صحيحة وسليمة، ومعافاة من الزيف والتحريف، وقراءات موضوعية لنصوص الكتب المقدسة متحررة من الرغبات السلطوية، فعملت هذه الجماعة على إحداث طوفان من التعميمات والمفاهيم، والدعايات المضادة لحركة التطور والتقدم الإنساني المشروع، ونجحت بذلك، إلى حين تثبيت أساسات مشروع القاعدة الاستعمارية المتقدمة (إسرائيل) على أرض وطن الشعب الفلسطيني التاريخي والطبيعي (فلسطين)، باعتبارها الموقع الاستراتيجي الفاصل بين الشقين الآسيوي والأفريقي للوطن العربي، وكان الاجتهاد الأول والأخير لهذه الجماعة منصبًا على منع الشعوب العربية من إبصار التقدم العلمي والمعرفي الذي بلغته شعوب ودول قريبة جغرافيًا، أو بعيدة، ليس هذا وحسب، بل محاربة كل رؤية أو تفسير أو قراءة مخالفة لمنطق الجماعة، التي سرعان ما سقط قناعها، مع أول موجة تحررية وطنية في الوطن العربي، وبرزت كطامع في السلطة الدنيوية، يسعى للسيطرة على الحكم، حتى لو كلف الأمر صراعات دموية في مجتمعات المسلمين أنفسهم، ومابين الشعب الواحد، في الوطن الواحد.
ولو نظرنا جيدًا إلى أحداث عقدين ماضيين، في أرجاء الوطن العربي لوجدنا حجم الأرهاصات والمبررات والذرائع التي قدمها الإخوان المسلمون، ومشتقاتهم، للمستعمرين لإعادة احتلال بلاد عربية، "كالقاعدة" و"داعش" وغيرهما على شكل تنظيمات مسلحة إرهابية، ولمنظومة الاحتلال التي مكنتهم، حتى اكتملت مهمتهم، وبلغوا تاريخ إنتهاء صلاحيتهم، فاتخذوهم ذريعة لإعادة تشكيل الاستعمار والاحتلال الاستيطاني لكل فلسطين، أما هؤلاء، فإنهم ما زالوا يعملون على شل حركة العقل، وتعطيل قدراته، ويمارسون ذات الشعوذة التي ابتدأها مورثوهم (مستخدمو الدين) لأهداف دنيوية سلطوية، وذلك لمنع يوم - عند ظنهم – حين يجلبهم الشعب إلى يوم حساب وقضاء بالعدل.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها