خلّف إحجام تركيا عن المشاركة في "أسطول الحرية2" الذي تقف سفنه في المياه الإقليمية لليونان ويسعى للإبحار نحو غزة، خلّف جدلا واسعا وفتح الباب على كثير من التساؤلات عن هذا الموقف التركي الذي يأتي بعد عام من الأسطول الأول الذي كان عماده الأساسي سفينة "مافي مرمرة "التركية الشهيرة.

قبل عدة أشهر وحين بدأ التحضير لأسطول الحرية بنسخته الثانية، فوجئ الجميع بإعلان تركيا عن عدم عزمها المشاركة، وبررت وقتها "هيئة الإغاثة التركية" ذلك بعدم جهوزية سفينة "مافي مرمرة" التي لا تزال تحت عملية الصيانة عقب تعرضها لهجوم إسرائيلي دام العام الماضي وقتل على متنها تسعة أتراك في عرض البحر.

هذا التبرير لم يكن مقنعا بالنسبة لكثير من المراقبين الذين رأوا في الموقف التركي تراجعا ونكوصا واضحا، بل وتخليا عن موقف استراتيجي سابق لطالما حرص رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان على التأكيد عليه في جميع إطلالاته.

بيد أن البعض التمس العذر لتركيا بعدما ردد كثير من المطلعين على الأوضاع الداخلية في تركيا بأن أنقرة تريد إحراج إسرائيل من خلال ابتعادها عن قيادة الأسطول باعتبارها دولة إسلامية وترك المجال أمام نشطاء من بلدان أخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، وهو ما سيدعم الهدف الرئيس من تلك الأساطيل وهو كشف معاناة أهل غزة بفعل الحصار.

ورغم أن حركة حماس وحكومتها المقالة في غزة، والتي ترتبط بعلاقات وطيدة مع تركيا، رفضت التعقيب على رفض تركيا المشاركة في "أسطول الحرية2" فإن اهتمام وسائل الإعلام الفلسطينية وحتى العربية، بل والإسرائيلية، كان واضحا في هذا الشأن، وتباينت التحليلات والآراء، إلا أن جميعها اتفقت على أن الموقف التركي كان مفاجئا.

صحيح أن المشاركة التركية في الأسطول الأول لم تكن رسمية، وإنما بواسطة مؤسسات وهيئات خاصة، أبرزها "هيئة الإغاثة التركية" المعروفة اختصارا باسم "IHH"، لكن الأكيد هو أن الدور الرسمي كان واضحا جدا وأصيلا، إذ تحظى هذه الهيئة بالذات بدعم كبير من الحكومة التركية ومن أردوغان شخصيا.

التامة في الأسطول الثاني، رغم أن إسرائيل لم تعتذر عن مهاجمة "ما في مرمرة" وقتل النشطاء الأتراك التسعة، وذاك هو الحد الأدنى من المطالب التركية، فيما حصار غزة باق ولم يتغير.

كثير من المراقبين يؤكدون أن هذه التحوّل مردّه تحول واضح في السياسة الرسمية التركية، إذ تعرضت أنقرة لضغوط واضحة من الولايات المتحدة، التي طلبت التوقف عن ارسال السفن، مقابل مكاسب سياسية كبيرة، كما أن المعادلة السياسية الداخلية لم تعد تسمح بمثل هذه المبادرات في الوقت الراهن رغم هيمنة حزب العدالة والتنمية على المشهد السياسي التركي.

وفي الوقت ذاته، يرى البعض أن الأولويات بالنسبة لتركيا تغيرت، ولم تعد غزة هي العنوان الوحيد الذي تعمل أنقرة على تعزيز تواجدها من خلاله في المشهد العربي، فالتطورات المتلاحقة في سوريا و"الثورة" المشتعلة ضد نظام الأسد، وموقف تركيا منها أضحى هو أهم ما يشغل القيادة السورية، فيما نظام حسني مبارك الذي كان يحكم مصر سقط، وأحد أهداف تركيا من المشاركة في الأسطول السابق وغيره من المواقف كان "تعرية" هذا النظام وفضحه أمام الرأي العام العربي.

القناعة بأن ثمة ضغوطات قوية على تركيا، وأن الأخيرة استجابت وخضعت لتلك الضغوط، لم تعد لدى المراقبين والمحللين العرب فحسب، بل إن الشارع التركي نفسه باتت لديه نفس تلك القناعة، وقد بدا ذلك جليا في تعليقات مواطنين أتراك ووسائل إعلام انتقدت بشدة الحكومة، واستغربت موقفها من الاعتداء على "مافي مرمرة" وتوقف مطالباتها بـ"أضعف الإيمان" وهو الاعتذار عن قتل الأتراك التسعة.

من السابق لأوانه القول بأن تركيا تخلّت عن دورها المركزي في دعم غزة وتعزيز صمود أهلها، لكن الموقف الأخير يثير الكثير من التكهنات، ويجعل التساؤلات مشروعة بانتظار مواقف أخرى تبدّد تلك المخاوف وتؤكد أن تصريحات أردوغان ومواقفه لم تكن مجرد "فقاعات" بل تعبير عن مبادئ وقناعات راسخة.